التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٥٧
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
٥٨
قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ
٥٩
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً } رُوي (أن رُفاعةَ بنَ زيد وسويدَ بنَ الحارث، أظهرا الإسلامَ ثم نافقا، وكان رجالٌ من المؤمنين يُوادُّونهما) فنُهوا عن موالاتهما، ورُتِّب النهيُ على وصف يعمُّهما وغيرَهما تعميماً للحكم وتنبـيهاً على العلة وإيذاناً بأن مَنْ هذا شأنُه جديرٌ بالمعاداة فكيف بالموالاة؟ { مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ } بـيان للمستهزئين، والتعرّضُ لعنوان إيتاءِ الكتاب لبـيان كمال شناعتِهم وغايةِ ضلالتهم، لِما أنَّ إيتاءَ الكتاب وازعٌ لهم عن الاستهزاء بالدين المؤسَّسِ على الكتابِ المصدِّقِ لكتابهم { وَٱلْكُفَّارَ } أي المشركين خُصّوا به لتضاعُفِ كفرهم، وهو عطف على الموصول الأول ففيه إشعارٌ بأنهم ليسوا بمستهزئين كما يُنبىءُ عنه تخصيصُ الخطاب بأهل الكتاب في قوله تعالى: { يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا } [المائدة، الآية 59] الآية، وقرىء بالجر عطفاً على الموصول الأخير ويعضُده قراءةُ أُبـيَ { وَمِنْ ٱلْكُفَّارِ } وقراءةُ عبدِ اللَّه { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [البقرة، الآية96. وسورة آل عمران، الآية 186] فهم أيضاً من جملة المستهزئين { أَوْلِيَاء } وجانبوهم كلَّ المجانبة.

{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في ذلك بترك موالاتهم أو بترك المَناهي على الإطلاق فيدخل فيه تركُ موالاتِهم دخولاً أولياً { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي حقاً، فإن قضيةَ الإيمان توجب الاتقاءَ لا محالة { وَإِذَا نَـٰدَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا }أي الصلاةَ أو المناداةَ، ففيه دلالة على شرعية الأذان { هُزُواً وَلَعِباً } بـيان لاستهزائهم بالدين على الإطلاق إظهاراً لكمال شقاوتهم. رُوي (أن نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، يقول: أحرق الله الكاذب، فدخل خادمُه ذاتَ ليلة بنار وأهلُه نيامٌ فتطايرَتْ منه شرارةٌ في البـيت فأحرقَتْه وأهلَه جميعاً) { ذٰلِكَ } أي الاستهزاء المذكور { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } فإن السَّفَه يؤدِّي إلى الجهل بمحاسِنِ الحق والهُزُؤ به، ولو كان لهم عقلٌ في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة { قُلْ } أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب بعد نهْيِ المؤمنين عن تولِّي المستهزئين بأن يخاطِبَهم ويبـيِّنَ أن الدين منزه عما يصحِّحُ صدورَ ما صدر عنهم من الاستهزاء، ويُظهرَ لهم سببَ ما ارتكبوه ويُلْقِمَهم الحجرَ، أي قل لأولئك الفجرة { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ } وُصفوا بأهلية الكتاب تمهيداً لما سيأتي من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا } من نقَم منه كذا إذا عابه وأنكره وكرهه، ينقِمه من حدِّ ضرب، وقُرىء بفتح القاف من حد علِمَ وهي أيضاً لغة، أي ما تَعيبون وما تُنكرون منا { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } من القرآن المجيد { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ } أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل المنزَّلَيْن عليكم وسائرِ الكتبِ الإلٰهية { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَـٰسِقُونَ } أي متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم بما يصدِّقُه لا محالة وهو عطف على (أن آمنا) على أنه مفعول له لتنقمون، والمفعول الذي هو الدينُ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما قبله وما بعده عليه دلالةً واضحة، فإن اتخاذ الدين هزواً ولعباً عينُ نِقَمِه وإنكارِه، والإيمانُ بما فُصِّل عينُ الدين الذي نقَموه خلا أنه أبرَزَ في معرِض علةِ نقمِهم له تسجيلاً عليهم بكمال المكابرةِ والتعكيس حيث جعلوه موجِباً لنقمه مع كونه في نفسه موجباً لقَبوله وارتضائه، فالاستثناءُ من أعم العلل أي ما تنقِمون منا دينَنا لعلةٍ من العلل إلا لأنا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أُنزل من قبلُ من كتُبكم، ولأن أكثركم متمردون غيرُ مؤمنين بواحدٍ مما ذُكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطقِ بصحة كتابِنا لآمنتم به، وإسنادُ الفسق إلى أكثرِهم لأنهم الحاملون لأعقابهم على التمرُّد والعناد، وقيل: عطفٌ عليه على أنه مفعول لتنقمون منا، لكن لا على أن المستثنى مجموعُ المعطوفَيْن بل هو ما يلزَمهما من المخالفة كأنه قيل: ما تنقمون منا إلا مخالفتَكم حيث دخلنا الإيمانَ وأنتم خارجون عنه، وقيل: على حذف المضافِ، أي واعتقادَ أن أكثركم فاسقون، وقيل: عطف على (ما) أي ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وبأنكم فاسقون، وقيل: عطفٌ على علة محذوفةٍ أي لقلة إنصافِكم ولأن أكثركم فاسقون، وقيل: الواو بمعنى مع أي ما تنقِمون منا إلا الإيمانَ مع أن أكثركم الخ، وقيل: هو مرفوعٌ على الابتداء والخبر محذوفٌ أي وفِسقُكم معلوم أي ثابت، والجملة حالية أو معترضة، وقرىء بإِن المكسورةِ والجملةُ مستأنَفة مبـيّنةٌ لكون أكثرهم فاسقين متمرِّدين.