التفاسير

< >
عرض

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ
٦٠
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذٰلِكَ } لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم ببـيان أن مدارَ نقمِهم للدين إنما هو اشتمالُه على ما يوجب ارتضاءَه عندهم أيضاً وكفرُهم بما هو مُسلَّم لهم. أُمر عليه الصلاة والسلام عَقيبَه بأن يُبكتَهم ببـيان أن الحقيقَ بالنقم والعيبَ حقيقةً ما هم عليه من الدين المحرَّف ويَنْعىٰ عليهم في ضمن البـيان جناياتِهم وما حاق بهم من تبِعاتها وعقوباتِها على منهاج التعريض لئلا يحمِلَهم التصريحُ بذلك على ركوب متن المكابرةِ والعنادِ، ويخاطِبَهم قبل البـيانِ بما يُنبىء عن عِظَم شأن المبـيَّنِ، ويستدعي إقبالَهم على تلقّيه من الجملة الاستفهامية المُشَوِّقة إلى المخبِر به والتنبئةِ المُشعرة بكونه أمراً خطيراً لما أن النبأ هو الخبرُ الذي له شأنٌ وخطَرٌ، وحيث كان مناطُ النقم شَرِّيَّةَ المنقوم حقيقةً أو اعتقاداً وكان مجردُ النقم غيرَ مفيد لشَرِّيته البتّةَ، قيل: (بشرٍّ) من ذلك ولم يقُل: بأنقَمَ من ذلك تحقيقاً لشَرِّية ما سيُذكر وزيادةَ تقرير لها، وقيل: إنما قيل ذلك لوقوعه في عبارة المخاطَبـين حيث " أتى نفرٌ من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة والسلام: أُومنُ بالله وما أنزل إلينا إلى قوله: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }" فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام قالوا: لا نعلم شراً من دينكم، وإنما اعتَبَر الشَّرِّيةَ بالنسبة إلى الدين وهو منزَّه عن شائبةِ الشرّية بالكلية مجاراةً معهم على زعمهم الباطِلِ المنعقدِ على كمال شريتِه ليثبِتَ أن دينهم شرٌ من كل شر، أي هل أخبركم بما هو شرٌّ في الحقيقة مما تعتقدونه شراً، وإن كان في نفسه خيراً محضاً { مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ } أي جزاءً ثابتاً في حكمه، وقرىء (مثوبةً) وهي لغة فيها كمشورة ومشورة وهي مختصةٌ بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر، وإنما وضعت هٰهنا موضعها على طريقة قوله: [الوافر]

[وخَيْلٌ قد دَلَفْتُ لها بخَيْلٍ] تحيةُ بـينِهم ضَرْبٌ وجيعُ

ونصبُها على التميـيز من (بشرّ) وقوله عز وجل: { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } خبر لمبتدأ محذوفٍ بتقدير مضافٍ قبله مناسبٍ لما أشير إليه بكلمة ذلك أي: دينُ مَنْ لعنه الخ، أو بتقدير مضافٍ قبلها مناسبٍ لمن، أي بشرّ مِنْ أهل ذلك، والجملة على التقديرين استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من الجملة الاستفهامية إما على حالها وهو الظاهرُ المناسب لسياق النظم الكريم، وإما باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل: ما الذي هو شرٌّ من ذلك؟ فقيل: هو دينُ مَنْ لعنه الله الخ، أو قيل في السؤال: من ذا الذي هو شرٌّ من أهل ذلك؟ فقيل: هو مَنْ لعنه الله، ووضع الاسمِ الجليلِ موضع الضمير لتربـية المهابةِ وإدخالِ الروعة وتهويلِ أمر اللعن وما تبعه، والموصولُ عبارةٌ عن المخاطبـين حيث أبعدهم الله تعالى من رحمته وسخِط عليهم بكفرهم وانْهماكِهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسُنوحِ البـينات.

{ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ } أي مسخ بعضَهم قردةً وهم أصحابُ السبْت وبعضَهم خنازيرَ وهم كفار مائدةِ عيسى عليه السلام، وقيل: كلا المسخين في أصحاب السبْت مُسِخت شبانُهم قردةً وشيوخُهم خنازيرَ وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في (منهم) باعتبار معناه كما أن إفراد الضميرين الأولين باعتبار لفظه، وإيثارُ وضعه موضعَ ضمير الخِطاب المناسب لأنبئكم للقصدِ إلى إثبات الشرِّية بما عُدّد في حيز صلتِه من الأمورِ الهائلة الموجبةِ لها على الطريقة البرهانية مع ما فيه من الاحتراز عن تهيـيج لَجاجِهم { وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَ } عطف على صلة (مَنْ) وإفراد الضمير لما مر وكذا عُبد الطاغوتُ على قراءة البناء للمفعول ورفع الطاغوتَ وكذا عبد الطاغوت بمعنى صار معبوداً، فالراجع إلى الموصول محذوف على القراءتين، أي عُبد فيهم أو بـينهم، وتقديم أوصافِهم المذكورة بصدد إثباتِ شرّية دينِهم على وصفهم هذا مع أنه الأصلُ المستتبِعُ لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات، لأن عبادة الطاغوتِ عينُ دينهم البـيّنِ البطلان ودلالتُها عليها بطريق الاستدلال بشرِّيَّة الآثار على شرِّية ما يوجبُها من الاعتقاد، والعمل، إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبـيل لهم إلى الجحود لا بشرِّيته وفظاعته ولا باتصافهم به، وإما للإيذان باستقلال كلَ من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرِّية، ولو روعيَ ترتيبُ الوجود، وقيل: مَنْ عَبَدَ الطاغوتَ ولعنه الله وغضب عليه الخ، لربما فهم أن علة الشرية هو المجموعُ، وقد قرىء (عابدَ الطاغوت) وكذا (عبِدَ الطاغوتِ) بالإضافة على أنه نعتٌ كفطِنٍ ويقِظٍ، وكذا (عبدَةَ الطاغوتِ)، وكذا (عبَدَ الطاغوتِ) بالإضافة على أنه جمع عابد كخَدَمٍ، أو على أن أصله (عبدةَ) حذفت تاؤه للإضافة، بالنصب في الكل عطفاً على القردة والخنازير، وقرىء (عَبَدِ الطاغوتِ) بالجر عطفاً على (مَنْ) بناءً على أنه مجرور بتقدير المضاف، وقد قيل: إن (مَنْ) مجرور على أنه بدلٌ من شرٍّ على أحد الوجهين المذكورين في تقدير المضاف، وأنت خبـير بأن ذلك مع اقتضائه إخلاءَ النظم الكريم عن المزايا المذكورة بالمرة مما لا سبـيل إليه قطعاً ضرورةَ أن المقصود الأصلي ليس مضمونَ الجملة الاستفهامية بل هو كما مر مقدّمة سيقت أمام المقصود لهُزُؤ المخاطبـين وتوجيه أذهانهم نحو تلقي ما يُلقىٰ إليهم عَقيبها بجملة خبرية موافقةٍ في الكيفية للسؤال الناشىء عنها وهو المقصودُ إفادتُه، وعليه يدور ذلك الإلزام والتبكيتُ حسبما شُرح، فإذا جُعل الموصولُ بما في حيز صلتِه من تتمة الجملة الاستفهامية فأين الذي يُلقىٰ إليهم عقيبها جواباً عما نشأ منها من السؤال ليحصُلَ به الإلزامُ والتبكيت؟ وأما الجملة الآتية فبمعزلٍ من صلاحية الجواب، كيف لا ولا بد من موافقته في الكيفية للسؤال الناشىء عن الجملة الاستفهامية، وقد عرفت أن السؤال الناشىءَ عنها يستدعي وقوعَ الشر من تتمة المخبَرِ عنه لا خبراً كما في الجملة المذكورة، وسيتضح ذلك مزيدَ اتضاحٍ بإذن الله تعالى، والمراد بالطاغوت العِجْلُ، وقيل: هو الكهنة وكلُّ من أطاعوه في معصية الله عز وجل فيعم الحكمُ دينَ النصارى أيضاً، ويتضح وجه تأخيرِ ذكرِ عبادتِه عن العقوبات المذكورة، إذ لو قُدِّمت عليها لتُوُهِّم اشتراكُ الفريقين في تلك العقوبات ولما كان مآلُ ما ذُكرَ بصدر التبكيت أن ما هو شرٌّ مما نقَموه دينُهم أو أن من هو شرٌّ من أهل ما نقموه أنفسُهم بحسَب ما قدِّر من المضافين، وكانت الشرِّيةُ على كلا الوجهين من تتمة الموضوع غيرَ مقصودة الإثبات لدينهم أو لأنفسهم عقِبَ ذلك بإثباتها لهم على وجهٍ يُشعر بعِلِّية ما ذُكر من القبائح لثبوتها لهم بجملةٍ مستأنَفةٍ مسوِّغةٍ من جهته سبحانه شهادةً عليهم بكمال الشرارة والضلال، أو داخلةٍ تحت الأمر تأكيداً للإلزام وتشديداً للتبكيت فقيل: { أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً } فاسمُ الإشارة عبارة عمن ذُكرتْ صفاتُهم الخبـيثة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتِهم في الشرارة أي أولئك الموصوفون بتلك القبائح والفضائحِ شرٌّ مكانُهم، جَعَلَ مكاناً شراً ليكونَ أبلغَ في الدلالة على شرارتهم، وقيل: شر مكاناً أي مُنصَرَفاً { وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } عطف على شر، مقرِّرٌ له أي أكثرُ ضلالاً عن الطريق المستقيم وفيه دلالة على كون دينهم شراً محضاً بعيداً عن الحق لأن ما يسلُكونه من الطريق دينُهم، فإذا كانوا أضلَّ كان دينُهم ضلالاً مُبـيناً لا غايةَ وراءه، وصيغةُ التفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى من يشاركهم في أصلِ الشرارة والضلال.