التفاسير

< >
عرض

وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
١٢٦
لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢٧
وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ
١٢٨
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَهَـٰذَا } أي البـيانُ الذي جاء به القرآنُ أو الإسلامُ أو ما سبق من التوفيق والخذلان { صِرٰطُ رَبّكَ } أي طريقُه الذي ارتضاه أو عادتُه وطريقتُه التي اقتضتها حِكمتُه، وفي التعرّض لعنوان الربوبـيةِ إيذانٌ بأن تقويمَ ذلك الصراطِ للتربـية وإفاضةِ الكمال { مُّسْتَقِيماً } لا عِوَج فيه أو عادلاً مطّرداً، أو هو حالٌ مؤكدة كقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدّقًا } [البقرة، الآية 91] والعاملُ فيها معنى الإشارة { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَـٰتِ } بـيّناها مفصلةً { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كلَّ ما يحدُث من الحوادث خيراً كان أو شراً فإنما يحدُث بقضاء الله تعالى وخلقِه وأنه تعالى عالمٌ بأحوال العبادِ حكيمٌ عادلٌ فيما يفعل بهم، وتخصيصُ القومِ المذكورين بالذكر لأنهم المنتفِعون بتفصيل الآيات { لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَـٰمِ } أي للمتذكرين دارُ السلامة من كل المكاره وهي الجنة { عِندَ رَبّهِمْ } أي في ضمانه، أو ذخيرةٌ لهم عنده لا يعلم كُنهَها غيرُه تعالى { وَهُوَ وَلِيُّهُم } أي مولاهم وناصرُهم { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بسبب أعمالِهم الصالحةِ، أو متولِّيهم بجزائها يتولىٰ إيصالَه إليهم.

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } منصوبٌ بمضمر إما على المفعولية أو الظرفية وقرىء بنون العظمة على الالتفات لتهويل الأمرِ، والضميرُ المنصوبُ لمن يُحشر من الثقلين، أي واذكر يومَ يَحشُر الثقلين قائلاً: { يَا مَعْشَرَ ٱلْجِنَّ } أو ويوم يحشُرهم يقول: يا معشرَ الجنِّ أو ويوم يحشرهم ويقول: يا معشرَ الجن يكونُ من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يساعدُه الوصفُ لفظاعته، والمعشرُ الجماعةُ، والمرادُ بمعشر الجنِّ الشياطينُ { قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مّنَ ٱلإنْسِ } أي من إغوائهم وإضلالِهم أو منهم بأن جعلتموهم أتباعَكم فحُشِروا معكم كقولهم: استكثر الأميرُ من الجنود، وهذا بطريق التوبـيخِ والتقريع { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم } أي الذين أطاعوهم، و(مِن) في قوله تعالى: { مّنَ ٱلإنْسِ } إما لبـيان الجنسِ أي أولياؤُهم الذين هم الإنسُ أو متعلقةٌ بمحذوف هو حالٌ من أولياؤهم أي كائنين من الإنس { رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي انتفع الإنسُ بالجن بأن دلُّوهم على الشهوات وما يُتوصَّل به إليها، وقيل: بأن ألقَوْه إليهم من الأراجيف والسِّحر والكهانة والجن والإنس بأن أطاعوهم وحصّلوا مرادَهم بقَبول ما ألقَوْه إليهم، وقيل: استمتاعُ الإنسِ بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز والمخاوفِ واستمتاعُهم بالإنس اعترافُهم بأنهم قادرون على إجارتهم { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا ٱلَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا } وهو يومُ القيامة قالوه اعترافاً بما فعلوه من طاعة الشياطينِ واتباعِ الهوى وتكذيبِ البعث، وإظهاراً للندامة عليها وتحسراً على حالهم واستسلاماً لربهم، ولعل الاقتصارَ على حكاية كلامِ الضالّين للإيذان بأن المُضلِّين قد أُفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً.

{ قَالَ } استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من حكاية كلامِهم كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ فقيل: قال: { ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ } أي منزِلُكم أو ذاتُ ثوُائِكم كما أن دارَ السلام مثوى المؤمنين { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } حال والعاملُ مثواكم إن جُعل مصدراً، ومعنى الإضافة إن جُعل مكاناً { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } قال ابن عباس رضي الله عنهما: استثنى الله تعالى قوماً قد سبق في علمه أنهم يُسلمون ويصدِّقون النبـيَّ عليه الصلاة والسلام، وهذا مبنيٌّ على أن الاستثناءَ ليس من المحكيّ، و(ما) بمعنى مَنْ وقيل: المعنى إلا الأوقاتَ التي يُنقلون فيها من النار إلى الزمهرير، فقد رُوي أنهم يدخُلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميِّزُ بعضَ أوصالِهم من بعض فيتعاوَوْن ويطلُبون الردَّ إلى الجحيم وقيل: يفتح لهم وهم في النار بابٌ إلى الجنة فيُسرعون نحوه حتى إذا صاروا إليه سُدَّ عليهم الباب. وعلى التقديرين فالاستثناءُ تهكّمٌ بهم وقيل: إلا ما شاء الله قبل الدخولِ كأنه قيل: النارُ مثواكم أبداً إلا ما أمهلكم ولا يخفى بعدُه { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } في أفاعيله { عَلِيمٌ } بأحوال الثقلين وأعمالِهم وبما يليق بها من الجزاء.