التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
١٣٢
وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
١٣٣
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ
١٣٤
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلِكُلّ } أي من المكلفين من الثقلين { دَرَجَـٰتٌ } متفاوتةٌ وطبقاتٌ متباينة { مّمَّا عَمِلُواْ } من أعمالهم صالحةً كانت أو سيئةً فإن أعمالَهم درجاتٌ في أنفسها أو من جزاء أعمالِهم فإن كلَّ جزاءٍ مرتبةٌ معينةٌ لهم أو من أجل أعمالِهم { وَمَا رَبُّكَ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فيخفى عليه عملٌ من أعمالهم أو قدْرُ ما يستحقون بها من ثواب أو عقاب، وقرىء بالتاء تغليباً للخطاب على الغَيْبة.

{ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِىُّ } مبتدأٌ وخبرٌ أي هو المعروفُ بالغني عن كل ما سواه كائناً مَنْ كان وما كان، فيدخُل فيه غناه عن العباد وعن عبادتهم، وفي التعرُّض لوصف الربوبـيةِ في الموضعين لا سيما في الثاني لكونه موقعَ الإضمار مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من إظهار اللطفِ به عليه السلام وتنزيهِ ساحتِه عن توهم شمولِ الوعيدِ الآتي لها أيضاً ما لا يخفى، وقوله تعالى: { ذُو ٱلرَّحْمَةِ } خبرٌ آخرُ أو هو الخبرُ، والغنيُّ صفةٌ أي يترحم عليهم بالتكليف تكميلاً لهم ويُمهلهم على المعاصي، وفيه تنبـيهٌ على أن ما سلف ذكرُه من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتمهيدٌ لقوله تعالى: { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي ما به حاجةٌ إليكم إن يشأ يذهبْكم أيها العصاةُ، وفي تلوين الخطابِ من تشديد الوعيد ما لا يخفى { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم } أي من بعد إذهابِكم { مَا يَشَاء } من الخلق، وإيثارُ ما على مَنْ لإظهار كمالِ الكبرياءِ وإسقاطِهم عن رتبة العقلاءِ { كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ } أي من نسل قومٍ آخرين لم يكونوا على مثل صفتِكم وهم أهلُ سفينةِ نوحٍ عليه الصلاة والسلام لكنه أبقاكم ترحماً عليكم، و(ما) في كما مصدريةٌ ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه مصدرٌ تشعيبـي على غير المصدرِ فإن يستخلف في معنى ينشىء كأنه قيل: وينشىء إنشاءً كائناً كإنشائكم الخ أو نعتٌ لمصدر الفعل المذكور أي يستخلف استخلافاً كائناً كإنشائكم الخ والشرطيةُ استئنافٌ مقررٌ لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة.

{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ } أي الذي توعدونه من البعث وما يتفرّع عليه من الأمور الهائلةِ، وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على الاستمرار التجددي { لآتٍ } لواقعٌ لا محالة كقوله تعالى: { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوٰقِعٌ } [المرسلات، الآية 7] وإيثارُه عليه لبـيان كمالِ سرعةِ وقوعِه بتصويره بصورة طالبٍ حثيثٍ لا يفوته هاربٌ حسبما يُعرب عنه قولُه تعالى: { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي بفائتين ذلك وإن ركِبتم في الهرب متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ كما أن إيثارَ صيغةِ الفاعلِ على المستقبل للإيذان بكمال قربِ الإتيان، والمرادُ بـيانُ دوامِ انتفاءِ الإعجازِ لا بـيانُ انتفاءِ دوامِ الإعجاز فإن الجملة الاسميةَ كما تدل على دوام الثبوتِ تدل بمعونة المقام إذا دخل عليها حرفُ النفذِ على دوام الانتفاءِ لا على انتفاء الدوامِ كما حُقق في موضعه.