التفاسير

< >
عرض

قُلْ يَٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ
١٣٥
وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
١٣٦
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قُلْ يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ } إثرَ ما بـيّن لهم حالَهم ومآلَهم بطريق الخطاب أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بطريق التلوينِ بأن يواجِهَهم بتشديد التهديد وتكريرِ الوعيد، ويظهر لهم ما هو عليه من غاية النصاب في الدين ونهايةِ الوثوقِ بأمره وعدم المبالاةِ بهم أي اعملوا على غاية تمكّنِكم واستطاعتِكم، يقال: مكُن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن، أو على جهتكم وحالتِكم التي أنتم عليها، من قولهم: مكانٌ ومكانةٌ كمقامٌ ومقامة، وقرىء مكاناتِكم والمعنى اثبُتوا على كفركم ومعاداتكم { إِنّى عَـٰمِلٌ } ما أُمرت به من الثبات على الإسلام والاستمرارِ على الأعمال الصالحةِ والمصابرةِ، وإيرادُ التهديد بصيغة الأمرِ مبالغةٌ في الوعيد كأن المهددَ يريد تعذيبَه مجمِعاً عليه فيحمِله بالأمر على ما يؤدي إليه، وتسجيلٌ بأن المهدِّد لا يتأتّى منه إلا الشرُّ كالذي أُمر به بحيث لا يجد إلى التقصّي عنه سبـيلاً { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ } سوف لتأكيد مضمون الجملة، والعلمُ عرفانيٌّ و(من) إما استفهاميةٌ معلّقةٌ بفعل العلم محلُّها الرفعُ على الابتداء و(تكون) باسمها وخبرها خبرٌ لها وهي مع خبرها في محل نصبٍ لسدها مسدَّ مفعول تعلمون أي فسوف تعلمون أيُّنا تكون له العاقبةُ الحسنىٰ التي خلق الله تعالى هذه الدارَ لها، وإما موصولةٌ فمحلُّها النصبُ على أنها مفعولٌ لتعلمون أي فسوف تعلمون الذي له عاقبةُ الدارِ، وفيه مع الإنذار إنصافٌ في المقال وتنبـيهٌ على كمال وثوقِ المنذِرِ بأمره، وقرىء بالياء لأن تأنيثَ العاقبةِ غيرُ حقيقي { إِنَّهُ } أي الشأنَ { لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } وُضع الظلمُ موضِعَ الكفرِ إيذاناً بأن امتناعَ الفلاحِ يترتب على أي فردٍ كان من أفراد الظلمِ فما ظنُّك بالكفر الذي هو أعظمُ أفرادِه؟

{ وَجَعَلُواْ } شروعٌ في تقبـيح أحوالِهم الفظيعةِ بحكاية أقوالِهم وأفعالِهم الشنيعةِ (وهم مشركو العربِ كانوا يُعيِّنون أشياءَ من حرث ونتاج لله تعالى وأشياءَ منهما لآلهتهم فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجَعوا فجعلوه لآلهتهم، وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلِّين بأن الله تعالى غنيٌّ وما ذاك إلا لحب آلهتِهم وإيثارِهم لها)، والجعلُ إما متعدَ إلى واحد فالجارّان في قوله تعالى: { لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ } متعلقان به، ومِنْ في قوله تعالى: { مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ } بـيانٌ لما، وفيه تنبـيهٌ على فرط جهالتِهم حيث أشركوا الخالقَ في خلقه جماداً لا يقدِر على شيء ثم رجّحوه عليه بأن جعلوا الزكيَّ له، أي عيَّنوا له تعالى مما خلقه من الحرث والأنعام { نَصِيباً } يصرِفونه إلى الضِيفان والمساكينِ، وتأخيرُه عن المجرورَيْن لما مرَّ مراراً من الاهتمام بالمقدَّمِ والتشويقِ إلى المؤخر، وإما إلى مفعولين أولُهما مما ذرأ على أن مِنْ تبعيضيةٌ أي جعلوا بعضَ ما خلقه نصيباً له وما قيل من أن الأولَ نصيباً والثاني لله لا يساعده سَدادُ المعنى، وحكايةُ جعلِهم له تعالى نصيباً تدل على أنهم جعلوا لشركائهم أيضاً نصيباً، ولم يُذْكر اكتفاءً بقوله تعالى: { فَقَالُواْ هَـٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَائِنَا } وقُرىء بضم الزاءِ، وهو لغةٌ فيه، وإنما قُيِّد به الأولُ للتنبـيه على أنه في الحقيقة ليس بجعلٍ لله تعالى، غيرُ مستتبِعٍ لشيء من الثواب كالتطوعات التي يُبتغى بها وجهُ الله تعالى لا لما قيل من أنه للتنبـيه على أن ذلك مما اخترعوه ولم يأمرهم الله تعالى به فإن ذلك مستفادٌ من الجعل، ولذلك لم يقيَّدْ به الثاني، ويجوز أن يكون ذلك تمهيداً لما بعده على معنى أن قولَهم هذا لله مجرَّدُ زعمٍ منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصُه به تعالى فقوله تعالى: { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى ٱللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ } بـيانٌ وتفصيلٌ له أي فما عيَّنوه لشركائهم لا يُصرَف إلى الوجوه التي يُصرف إليها ما عيّنوه لله تعالى من قِرى الضِيفان والتصدقِ على المساكين وما عيَّنوه لله تعالى إذا وجدوه زاكياً يُصرف إلى الوجوه التي يُصرف إليها ما عيّنوه لآلهتهم من إنفاق عليها وذبحِ نسائِكَ عندها والإجراءِ على سَدَنتها ونحو ذلك { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } فيما فعلوا من إيثار آلهتِهم على الله تعالى وعملهم بما لم يُشرَعْ لهم و(ما) بمعنى الذي، والتقديرُ ساء الذي يحكُمون حكمَهم فيكون حكمُهم مبتدأً وما قبله الخبرُ وحُذف لدِلالة يحكُمون عليه.