التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٥٣
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
١٥٤
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي } إشارةٌ إلى ما ذكر في الآيتين من الأمر والنهي، قاله مقاتل وقيل: إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيدِ والنبوة وبـيانِ الشريعة، وقرىء صراطيَ بفتح الياء، ومعنى إضافتِه إلى ضميره عليه الصلاة والسلام انتسابُه إليه عليه الصلاة والسلام من حيث السلوكُ لا من حيث الوضعُ كما في صراط الله، والمرادُ بـيانُ أن ما فُصِّل من الأوامر والنواهي غيرُ مختصةٍ بالمتلو عليهم بل متعلقةٌ به عليه الصلاة والسلام أيضاً وأنه صلى الله عليه وسلم مستمرٌّ على العمل بها ومراعاتِها وقوله تعالى: { مُّسْتَقِيماً } حالٌ مؤكدةٌ، ومحل أن مع ما في حيزها الجرُّ بحذف لام العلة أي ولأن هذا صراطي أي مسلكي مستقيماً { فَٱتَّبَعُوهُ } كقوله تعالى: { وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } [الجن، الآية 18] وتعليلُ إتباعِه بكونه صراطَه عليه الصلاة والسلام لا بكونه صراطَ الله تعالى ـ مع أنه في نفسه كذلك من حيث سلوكُه صلى الله عليه وسلم ـ فيه داعٍ للخلق إلى الاتّباع إذ بذلك يتضح عندهم كونُه صراطَ الله عز وجل، وقرىء بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرىء أنْ هذا مخففةً من أنّ، على أن اسمَها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ وقرىء صراطي وقرىء هذا صراطي وقرىء وهذا صراطُ ربِّكم وهذا صراطُ ربِّك { وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ } الأديانَ المختلفةَ أو طرقَ البدع والضلالات { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ } بحذف إحدى التاءين، والباء للتعدية أي فتفرِّقَكم حسَبَ تفرُّقِها أياديَ سبا فهو كما ترى أبلغُ من تفرقكم كما قيل من أن ذهَبَ به ـ لما فيه من الدلالة على الاستصحاب ـ أبلغُ من أذهبه { عَن سَبِيلِهِ } أي سبـيل الله الذي لا عِوَجَ فيه ولا حرج، وهو دين الإسلام الذي ذُكر بعضُ أحكامه وقيل: هو اتباعُ الوحي واقتفاءُ البرهان، وفيه تنبـيهٌ على أن صراطَه عليه الصلاة والسلام عينُ سبـيل الله تعالى { ذٰلِكُمْ } إشارةٌ إلى ما مر من اتباع سبـيلِه تعالى وتركِ اتباعِ سائر السبل { وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } اتباعَ سبُلِ الكفر والضلالة.

{ ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ } كلامٌ مسوقٌ من جهته تعالى تقريراً للوصية وتحقيقاً لها وتمهيداً لما يعقُبه من ذكر القرآنِ المجيد كما ينبىء عنه تغيـيرُ الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوفٌ على مقدر يقتضيه المقامُ ويستدعيه النظامُ كأنه قيل بعد قوله تعالى: { { ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ } [الأنعام، الآية 151 و152 و153] بطريق الاستئنافِ تصديقاً له وتقريراً لمضمونه: فعلنا ذلك ثم آتينا الخ، كما أن قوله تعالى: { { وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [الأعراف، الآية 100] معطوف على ما يدل عليه معنى { أَوَ لَمْ يَهْدِ } [الأعراف، الآية 100] الخ، كأنه قيل: يغفُلون عن الهداية ونطبع الخ، وأما عطفُه على ذلكم وصاكم به ونظمُه معه في سلك الكلامِ الملقّن كما أجمع عليه الجمهورُ فمما لا يليق بجزالة النظمِ الكريم فتدبر.

و(ثم) للتراخي في الإخبار كما في قولك: بلغني ما صنعتَ اليوم ثم ما صنعتَ أمسِ أعجبُ، أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل: ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً ثم أعظمُ من ذلك أنا آتينا موسى التوراةَ فإن إيتاءَها مشتملةً على الوصية المذكورةِ وغيرِها أعظمُ من التوصية بها فقط { تَمَامًا } للكرامة والنعمة أي إتماماً لهما على أنه مصدرٌ من أتمّ بحذف الزوائد { عَلَى ٱلَّذِى أَحْسَنَ } أي على مَنْ أحسن القيامَ به كائناً مَنْ كان، ويؤيده أنه قرىء { على الذين أحسنوا } وتماماً على المحسنين أو على الذي أحسن تبليغَه وهو موسى عليه السلام أو تماماً على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائعِ أي زيادةً على علمه على وجه التتميم، وقرىء بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي على الذي هو أحسنُ دينٍ وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تماماً أي تاماً كاملاً على أحسنَ ما يكون عليه الكتُب { وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } وبـياناً مفصلاً لكل ما يُحتاج إليه في الدين وهو عطفٌ على تماماً ونصبُهما إما على العلية أو على المصدرية كما أشير إليه أو على الحالية وكذا قوله تعالى: { وَهُدًى وَرَحْمَةً } وضميرُ { لَعَلَّهُمْ } لبني إسرائيلَ المدلولِ عليهم بذكر موسى وإيتاءِ الكتاب والباء في قوله تعالى: { بِلَقَاء رَبّهِمْ } متعلقةٌ بقوله تعالى: { يُؤْمِنُونَ } قدمت عليه محافظةً على الفواصل قال ابن عباس رضي الله عنهما: كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب.