التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
١٠
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ
١١
-الأعراف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلَقَدْ مَكَّنَّـٰكُمْ فِى ٱلأَرْضِ } لما أمر الله سبحانه أهلَ مكةَ باتباع ما أنزل إليهم ونهاهم عن اتباع غيرِه وبـيّن لهم وخامةَ عاقبتِه بالإهلاك في الدنيا والعذاب المخلّد في الآخرة ذكّرهم ما أفاض عليهم من فنون النعم الموجبةِ للشكر ترغيباً في الامتثال بالأمر والنهي إثرَ ترهيبِ أي جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـٰيِشَ } المعايشُ جمعُ معيشةٍ وهي ما يُعاش به من المطاعم والمشاربِ وغيرِها، أو ما يُتوصَّل به إلى ذلك والوجهُ في قراءته إخلاصُ الياء وعن ابن عامرٍ أنه همزةٌ تشبـيهاً له بصحائف ومدائن، والجعلُ بمعنى الإنشاء والإبداع، أي أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعِكم فيها أسباباً تعيشون بها، وكلُّ واحد من الظرفين متعلقٌ به أو بمحذوف وقع حالاً من مفعوله المُنكّر، إذ لو تأخر لكان صفةً له وتقديمُهما على المفعول من أن حقهما التأخيرُ عنه لما مر غيرَ مرةٍ من الاعتناء بشأن المقدمِ والتشويقِ إلى المؤخر، فإن النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيما عند كونِ المقدم منبئاً عن منفعة للسامع تبقىٰ مترقبةً لورود المؤخَّرِ فيتمكن فيها عند الورودِ فضلُ تمكّن، وأما تقديمُ اللامِ على في فلما أنه المنبىءُ عما ذُكر من المنفعة فالاعتناءُ بشأنه أتمُّ والمسارعةُ إلى ذكره أهمّ.

هذا وقيل: إن الجعلَ متعدَ إلى مفعولين ثانيهما أحدُ الظرفين على أنه مستقر، قُدّم على الأول، والظرفُ الآخَرُ إما لغوٌ متعلقٌ بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالاً من المفعول الأولِ كما مر، وأنت خبـيرٌ بأنه لا فائدةَ معتدٌّ بها في الإخبار بجعل المعايشِ حاصلةً لهم أو حاصلةً في الأرض، وقولُه تعالى: { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي تلك النعمةَ، تذيـيلٌ مَسوقٌ لبـيان سوءِ حالِ المخاطبـين وتحذيرِهم وبقيةُ الكلامِ فيه عينُ ما مر في تفسير قوله تعالى: { { مَّا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف، الآية 3].

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَـٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـٰكُمْ } تذكيرٌ لنعمة عظيمةٍ فائضةٍ على آدمَ عليه السلام ساريةٍ إلى ذريته موجبةٍ لشكرهم كافةً، وتأخيرُه عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التمكينِ إما لأنها فائضةٌ على المخاطَبـين بالذات وهذه بالواسطة، وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمةٌ مستقلةٌ مستوجِبةٌ للشكر على حيالها، فإن رعايةَ الترتيبِ الوقوعيِّ ربما تؤدِّي إلى توهّم عدِّ الكلِّ نعمةً واحدةً كما ذكر في قصة آدمَ. وتصديرُ الجملتين بالقسم وحرفِ التحقيقِ لإظهار كمالِ العناية بمضمونها، وإنما نُسب الخلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبـين مع أن المرادَ بهما خلقُ آدم عليه السلام وتصويرُه حتماً توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه وتأكيداً لوجوب الشكر عليهم بالرمز إلى أن لهم حظاً من خلقه عليه السلام وتصويرِه لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه السلام كسجود الملائكةِ له عليه السلام بل من الأمور الساريةِ إلى ذريته جميعاً إذ الكلُّ مخلوقٌ في ضمن خلقِه على نمطه ومصنوعٌ على شاكلته فكأنهم الذي تعلق به خلقُه وتصويرُه، أي خلقنا أباكم آدمَ طيناً غيرَ مُصوَّرٍ ثم صوَّرناه أبدعَ تصويرٍ وأحسنَ تقويمٍ سارَ إليكم جميعاً { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } صريحٌ في أنه ورد بعد خلقِه عليه الصلاة والسلام وتسويتِه ونفخِ الروحِ فيه أمرٌ مُنجَزٌ غيرُ الأمر المعلَّق الواردِ قبل ذلك بقوله تعالى: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ } [الأعراف، الآية 3] وهو المراد بما حكي بقوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآِدَمَ } الآية، في سورة البقرة وسورةِ بني إسرئيلَ وسورةِ الكهف وسورةِ طه من غير تعرضٍ لوقته، وكلمة ثم هٰهنا تقتضي تراخِيَه عن التصوير من غير تعرضٍ لبـيان ما جرى بـينهما من الأمور وقد بـينا في سورة البقرةِ أن ذلك ظهورُ فضلِ آدمَ عليه السلام بعد المحاورة المسبوقةِ بالإخبار باستخلافه عليه السلام حسبما نطق به عز وجل: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة، الآية 30] إلى قوله: { { وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة، الآية 30] فإن ذلك أيضاً من جملة ما نيط به الأمرُ المعلقُ من التسوية ونفخِ الروح، وعدمُ ذكرِه عند الحكايةِ لا يقتضي عدمَ ذكره عند وقوعِ المحكيّ كما أن عدم ذكرِ الأمرِ المنْجزِ لا يستلزمُ عدمَ مسبوقيتِه به فإن حكايةَ كلامٍ واحدٍ على أساليبَ مختلفةٍ يقتضيها المقامُ ليست بعزيزة في الكلام العزيزِ، فلعله قد ألقى إلى الملائكة عليهم السلام أو إلى جميع ما يتوقفُ عليه الأمرُ المنجزُ إجمالاً بأن قيل مثلاً: إني خالقٌ بشراً من طين وجاعلٌ إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي وتبـيَّن لكم فضلُه فقَعوا له ساجدين، فخلقه فسواه فنفخ فيه من روحه فقالوا عند ذلك ما قالوا، أو ألقيَ إليهم خبرُ الخلافةِ بعد تحققِ الشرائطِ المذكورةِ بأن قيل إثرَ نفخِ الروحِ: إني جاعلٌ هذا خليفةً في الأرض فهنالك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا فأيده الله تعالى بتعليم الأسماءِ فشاهدوا منه عليه السلام ما شاهدوا فعند ذلك ورد الأمرُ المنْجزُ اعتناءً بشأن المأمور به وإيذاناً بوقته، وقد حُكيَ بعضُ الأمور المذكورة في بعض المواطنِ وبعضُها في بعضها اكتفاءً بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ.

والذي يرفع غشاوةَ الاشتباهِ عن البصائر السليمةِ أن ما في سورة (ص) من قوله تعالى: { { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ } [ص، الآية 71] الآيات، بدلٌ من قولِه: { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } فيما قبله من قوله: { مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِٱلْمَـَلإِ ٱلأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ص، الآية 69] أي بكلامهم عند اختصامِهم، ولا ريب في أن المرادَ بالملأ الأعلى الملائكةُ وآدمُ عليهم السلام وإبليسُ حسبما أطبق عليه جمهورُ المفسرين، وباختصامِهم ما جرى بـينهم في شأن الخلافةِ من التقاول الذي جملتُه ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء، ومن قضية البدلية وقوعُ الاختصام المذكورِ في تضاعيف ما شُرح فيه مفصّلاً من الأمر المعلّق وما علق به من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكةِ وعنادِ إبليسَ ولعنِه وإخراجِه من بـين الملائكةِ وما جرى بعده من الأفعالِ والأقوالِ، وإذ ليس تمامُ الاختصامِ بعد سجود الملائكةِ وعنادِ إبليسَ ومكابرةِ إبليسَ وطردِه من البـين ـ لما عرفت من أنه أحدُ المختصمِين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورة ـ فإذن هو بعد نفخِ الروحِ وقبل السجودِ بأحد الطريقين المذكورين والله تعالى أعلم.

{ فَسَجَدُواْ } أي الملائكةُ عليهم السلام بعد الأمرِ من غير تلعثم { إِلاَّ إِبْلِيسَ } استثناءٌ متصلٌ لما أنه كان جنياً مفرداً مغموراً بألوف من الملائكة متَّصفاً بصفاتهم فغُلّبوا عليه في (فسجدوا) ثم استُثنِيَ استثناءَ واحدٍ منهم، أو لأن من الملائكة جنساً يتوالدون يقال لهم: الجنُّ كما مر في سورة البقرة فقوله تعالى: { لَمْ يَكُن مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ } أي ممن سجد لآدمَ كلامٌ مستأنفٌ مُبـينٌ لكيفية عدمِ السجود المفهومِ من الاستثناء فإن عدمَ السجودِ قد يكون للتأمل ثم يقع السجودُ، وبه عُلم أنه لم يقعْ قطُّ.

وقيل: منقطعٌ فحينئذ يكون متصلاً بما بعده أي لكنْ إبليسِ لم يكن من الساجدين.