التفاسير

< >
عرض

وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
١٠٢
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ
١٠٣
-الأعراف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم } أي أكثرِ الأممِ المذكورين، واللامُ متعلقةٌ بالوُجدان كما في قولك: ما وجدتُ له مالاً أي ما صادفت له مالاً ولا لقِيته، أو بمحذوف وقع حالاً من قوله تعالى: { مَّنْ عَـهْدٍ } لأنه في الأصل صفةٌ للنكرة فلما قُدّمت عليها انتصبت حالاً، والأصلُ ما وجدنا عهداً كائناً لأكثرهم ومِنْ وفاء عهدٍ فإنهم نقضوا ما عاهدوا الله عليه عند مساسِ البأساء والضراءِ قائلين: لئن أنجيتنا من هذه لنكونَنّ من الشاكرين، فتخصيصُ هذا الشأنِ بأكثرهم ليس لأن بعضَهم كانوا يوفون بعهودهم بل لأن بعضَهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون، وقيل: المرادُ بالعهد ما عهِد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوىٰ بنصب الآياتِ وإنزالِ الحُجج، وقيل: ما عهِدوا عند خطابِ { { أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ } [الأعراف: 172] فالمرادُ بأكثرهم كلُّهم، وقيل: الضميرُ للناس والجملةُ اعتراضٌ فإن أكثرَهم لا يوفون بالعهد بأي معنى كان { وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ } أي أكثرُ الأمم أي علِمناهم كما في قولك: وجدتُ زيداً ذا حِفاظ وقيل: الأول أيضاً كذلك، وإن مخففةٌ من إنّ وضميرُ الشأن محذوفٌ أي إن الشأنَ وجدناهم { لَفَـٰسِقِينَ } خارجين عن الطاعة ناقضين للعهود، وعند الكوفيـين أنّ إنْ نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا أي ما وجدناهم إلا فاسقين.

{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ } أي أرسلناه من بعد انقضاء وقائعِ الرسل المذكورين أو من بعد هلاكِ الأممِ المحكيةِ، والتصريحُ بذلك مع دِلالة (ثم) على التراخي للإيذان بأن بعثه عليه الصلاة والسلام جرى على سَنن السُنةِ الإلٰهية من إرسال الرسلِ تترى، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر { بِـئَايَـٰتِنَا } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من مفعول بعثنا، أو صفةٌ لمصدره أي بعثناه عليه الصلاة والسلام ملتبساً بآياتنا أو بعثناه بَعْثاً ملتبساً بها، وهي الآياتُ التِسعُ المُفَصَّلاتُ التي هي: العصا، واليدُ البـيضاء، والسِّنونَ، ونقصُ الثمرات، والطُّوفانُ، والجرادُ، والقُمّلُ، والضفادِعُ، والدم، حسبما سيأتي على التفصيل { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ } هو لقبٌ لكل من ملَك مِصْرَ من العمالقة كما أن كِسرى لقبٌ لكل من ملك فارسَ، وقيصرَ لكل مَنْ ملك الروم واسمُه قابوسُ، وقيل: الوليدُ بنُ مصعبِ بن الريان { وَمَلَئِهِ } أي أشرافِ قومِه، وتخصيصُهم بالذكر مع عموم رسالتِه عليه الصلاة والسلام لقومه كافةً حيث كانوا جميعاً مأمورين بعبادة ربِّ العالمين عزَّ سلطانُه، وتركِ العظيمةِ الشنعاءِ التي كان يدّعيها الطاغيةُ وتقبلها منه فئتُه الباغية لأصالتهم في تدبـير الأمور واتباعِ غيرِهم لهم في الورود والصدور { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي كفروا بها، أُجري الظلمُ مُجرى الكفرِ لكونهما من واد واحدٍ، أو ضُمّن معنى الكفرِ أو التكذيبِ أي ظلموا كافرين بها أو مكذِّبـين بها، أو كفروا بها مكان الإيمانِ الذي هو من حقها لوضوحها ولهذا المعنى وُضع ظلَموا موضِعَ كفروا وقيل: ظلموا أنفسَهم بسببها بأن عرّضوها للعذاب الخالد، أو ظلموا الناسَ بصدهم عن الإيمان بها، والمرادُ به الاستمرارُ على الكفر بها إلى أن لقُوا من العذاب ما لقُوا، ألا يُرى إلى قوله تعالى: { فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } فكما أن ظلمهم بها مستتبعٌ لتلك العاقبةِ الهائلةِ كذلك حكايةُ ظلمِهم بها مستتبعٌ للأمر بالنظر إليها، وكيف خبرُ كان قُدّم على اسمها لاقتضائه الصدارةَ والجملةُ في حيز النصب بإسقاط الخافضِ أي فانظر بعين عقلِك إلى كيفية ما فعلنا بهم، ووضعُ المفسدين موضعَ ضميرِهم للإيذان بأن الظلم مستلزِمٌ للإفساد.