التفاسير

< >
عرض

قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
١٨٨
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
١٨٩
-الأعراف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقوله تعالى:

{ قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا } شروعٌ في الجواب عن السؤال ببـيان عجزِه عن علمها إثرَ بـيانِ عجزِ الكلِ عنه وإبطالُ زعمِهم الذي بنَوْا عليه سؤالَهم من كونه عليه الصلاة والسلام ممن يعلمها، وإعادةُ الأمر لإظهار كمالِ العنايةِ بشأن الجوابِ والتنبـيهِ على استقلاله ومغايرتِه للأول، والتعرضُ لبـيان عجزه عما ذُكر من النفع والضُرِّ لإثبات عجزِه عن علمها بالطريق البرهاني، واللامُ إمَا متعلقٌ بأملك أو بمحذوف وقع حالاً من نفعاً أي لا أقدر لأجل نفسي على جلب نفعٍ ما ولا على دفع ضرَ ما { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } أن أملِكَه من ذلك بأن يُلْهِمنيه فيُمكِنَني منه ويُقدِرَني عليه أو لكنْ ما شاء الله من ذلك كائنٌ، فالاستثناءُ منقطعٌ وهذا أبلغُ في إظهار العجز { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } أي جنسَ الغيبِ الذي من جملته ما بـين الأشياء من المناسبات المصححةِ عادةً للسببـية والمسبّبة، ومن المباينات المستتبعةِ للممانعة والمدافعةِ { لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ } أي لحصّلتُ كثيراً من الخير الذي نيط تحصيلُه بالأفعال الاختياريةِ للبشر بترتيب أسبابِه ودفعِ موانِعه { وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوء } أي السوءُ الذي يمكن التقصّي عنه بالتوقيِّ عن موجباته والمدافعةِ بموانعه لا سوءٌ ما فإن منه ما لا مدفعَ له.

{ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } أي ما أنا إلا عبدٌ مرسَلٌ للإنذار والبشارة شأني حيازةُ ما يتعلق بهما من العلوم الدينيةِ والدنيوية لا الوقوفُ على الغيوب التي لا علاقة بـينها وبـين الأحكامِ والشرائعِ وقد كشفتُ من أمر الساعةِ ما يتعلق به الإنذارُ من مجيئها لا محالة واقترابِها، وأما تعيـينُ وقتِها فليس مما يستدعيه الإنذارُ بل هو مما يقدح فيه لما مر من أن إبهامَه أدعىٰ إلى الانزجار عن المعاصي وتقديمُ النذيرِ على البشير لما أن المقامَ مَقامُ الإنذار وقوله تعالى: { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } إما متعلقٌ بهما جميعاً لأنهم ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالبشارة، وإما بالبشير فقط وما يتعلق بالنذير للكافرين أي الباقين على الكفر، وبشيرٌ لقوم يؤمنون أي في أيّ وقتٍ كان ففيه ترغيبٌ للكفرة في إحداث الإيمانِ وتحذيرٌ عن الإصرار على الكفر والطغيان.

هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ } استئناف سيق لبـيان كمالِ عِظَمِ جنايةِ الكَفَرةِ في جراءتهم على الإشراك بتذكير مبادىءِ أحوالِهم المنافيةِ له، وإيقاعُ الموصول خبراً لتفخيم شأنِ المبتدأ، أي هو ذلك العظيمُ الشأنِ الذي خلقكم جميعاً وحدَه من غير أن يكون لغيره مدخلٌ في ذلك بوجه من الوجوه { مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ } هو آدمُ عليه الصلاة والسلام، وهذا نوعُ تفصيلٍ لما أشير إليه في مطلع السورةِ الكريمة إشارةً إجماليةً من خلقهم وتصويرِهم في ضمن خلق آدمَ وتصويرِه وبـيانٌ لكيفيته { وَجَعَلَ } عطف على خلقكم داخلٌ في حكم الصلة، ولا ضيرَ في تقدمه عليه وجوداً لِما أن الواوَ لا تستدعي الترتيبَ في الوجود { مِنْهَا } أي من جنسها كما في قوله تعالى: { { جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } [النحل: 72] أو من جسدها لما يُروى أنه تعالى خلقَ حوّاءَ من ضِلْع من أضلاع آدمَ عليه الصلاة والسلام، والأولُ هو الأنسُب إذِ الجنسيةُ هي المؤديةُ إلى الغاية الآتيةِ لا الجزئيةُ، والجعلُ إما بمعنى التصيـيرِ فقوله تعالى: { زَوْجَهَا } مفعولُه الأولُ والثاني هو الظرفُ المقدّم، وإما بمعنى الإنشاءِ والظرفُ متعلقٌ بجعل قُدّم على المفعول الصريحِ لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر، أو بمحذوف هو حالٌ من المفعول والأولُ هو الأولى وقوله تعالى: { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } علةٌ غائيةٌ للجعل باعتبار تعلُّقِه بمفعولِه الثاني أي ليستأنسَ بها ويطمئِنّ إليها اطمئناناً مصححاً للازدواج كما يلوح به تذكيرُ الضميرِ ويُفصح عنه قوله تعالى: { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } أي جامعها { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } في مبادىء الأمرِ فإنه عند كونه نطفةً أو علقةً أو مضغة أخفُّ عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب لذكر خِفته للإشارة إلى نعمته تعالى عليهم في إنشائه تعالى إياهم متدرجين في أطوار الخلقِ من العدم إلى الوجود ومن الضَّعف إلى القوة { فَمَرَّتْ بِهِ } أي فاستمرّت به كما كانت قبل حيث قامتْ وقعدت وأخذت وتركت، وعليه قراءةُ ابن عباس رضي الله تعالى عنه وقرىء (فمَرَتْ) بالتخفيف و(فمارَتْ) من المور وهو المجيءُ والذهابُ أو من المِرْية فظنت الحملَ وارتابت به، وأما ما قيل من أن المعنى حملت حملاً خفّ عليها ولم تلْقَ منه ما يلقىٰ بعضُ الحبَالىٰ من حملهن من الكرب والأذّية ولم تستثقِلْه كما يستثقِلْنَه فمرّت به أي فمضَت به إلى ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق فيرده قوله تعالى: { فَلَمَّا أَثْقَلَت } إذ معناه فلما صارت ذاتَ ثِقلٍ لكبر الولدِ في بطنها، ولا ريب في أن الثقلَ بهذا المعنى ليس مقابلاً للخفة بالمعنى المذكور إنما يقابلها الكربُ الذي يعتري بعضَهن من أول الحمل إلى آخره دون بعضٍ أصلاً، وقرىء أُثقِلت على البناء للمفعول أي أثقلها حملُها { دَّعَوَا ٱللَّهَ } أي آدمُ وحواءُ عليهما السلام لمّا دَهِمهما أمرٌ لم يعهَداه ولم يعرِفا مآله فاهتما به وتضرّعا إليه عز وجل وقوله تعالى: { رَبُّهُمَا } أي مالكَ أمرِهما الحقيقَ بأن يُخَصَّ به الدعاءُ إشارةٌ إلى أنهما قد صدّرا به دعاءَهما كما في قولهما: { { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [الأعراف: 23] الآية، ومتعلَّقُ الدعاءِ محذوفٌ تعويلاً على شهادة الجملةِ القسَمية به، أي دَعَواه تعالى أنه يُؤتيَهما صالحاً ووعدا بمقابلته الشكرَ على سبـيل التوكيدِ القسَميِّ وقالا أو قائلين:

{ لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَـٰلِحاً } أي ولداً من جنسنا سوياً { لَنَكُونَنَّ } نحن ومن يتناسل من ذريتنا { مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } الراسخين في الشكر على نعمائك التي من جملتها هذه النعمةُ، وترتيبُ هذا الجوابِ على الشرط المذكورِ لما أنهما قد علما أن ما علّقا به دعاءَهما أُنموذَجٌ لسائر أفرادِ الجنسِ ومعيارٌ لها ذاتاً وصفةَ وجودِه مستتبعٌ لوجودها وصلاحُه مستلزِمٌ لصلاحها فالدعاءُ في حقه متضمنٌ للدعاء في حق الكل مستتبِعٌ له كأنهما قالا: لئن آتيتنا وذريتَنا أولاداً صالحة، وقيل: إن ضميرَ آتيتَنا أيضاً لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما فالوجهُ ظاهرٌ، وأنت خبـيرٌ بأن نظمَ الكل في سلك الدعاءِ أصالةً يأباه مقام المبالغةِ في الاعتناء بشأن ما هما بصدده، وأما جعلُ ضميرِ لنكونن للكل فلا محذورَ فيه لأن توسيعَ دائرةِ الشكر غيرُ مُخِلَ بالاعتناء المذكور بل مؤكدٌ له. وأياً ما كان فمعنى قوله تعالى: