التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٣٠
-التوبة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ } جملةٌ مبتدأةٌ سيقت لتقريرٍ ما من عدم إيمانِ أهلِ الكتابـين بالله سبحانه وانتظامِهم بذلك في سلك المشركين { عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } مبتدأٌ وخبرٌ وقرىء بغير تنوينٍ على أنه اسمٌ أعجميٌّ كعازَرَ وعزَارَ غيرُ منصرفٍ للعجمة والتعريف، وأما تعليلُه بالتقاء الساكنين أو بجعل الابن وصفاً على أن الخبرَ محذوفٌ فتعسّفٌ مستغنىً عنه. قيل: هو قولُ قدمائِهم ثم انقطع فحَكى الله تعالى ذلك عنهم، ولا عبرةَ بإنكار اليهودِ وقيل: قولُ بعضٍ ممن كان بالمدينة. عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ منهم وهم سلامُ بنُ مِشْكَم ونعمانُ بنُ أوفى وشاسُ بنُ قيسٍ ومالكُ بنُ الصيف فقالوا ذلك وقيل: قاله فنحاصُ بنُ عازوراءَ وهو الذي قال: (إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء) وسببُ هذا القولِ أن اليهودَ قتلوا الأنبـياءَ بعد موسى عليه السلام فرفع الله تعالى عنهم التوراةَ ومحاها من قلوبهم، فخرج عزيرٌ وهو غلامٌ يَسيح في الأرض فأتاه جبريلُ عليه السلام فقال له: أين تذهب، قال: أطلبُ العلم فحفّظه التوراةَ فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرِم حرفاً، فقالوا: ما جمع الله التوراةَ في صدره وهو غلامٌ إلا أنه ابنُه. قال الإمام الكلبـي: لما قَتل بُختُ نَصَّرُ علماءَهم جميعاً وكان عزيرٌ إذ ذاك صغيراً فاستصغره ولم يقتُلْه فلما رجع بنو إسرائيلَ إلى بـيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوارةَ بعث الله تعالى عزيراً ليجدد لهم التوراةَ ويكونَ آيةً بعد ما أماته مائةَ عامٍ، يقال إنه أتاه ملكٌ بإناء فيه ماءٌ فسقاه فمثلت في صدره فلما أتاهم فقال لهم: إني عزيرٌ كذّبوه فقالوا: إن كنت كما تزعُم فأمْلِ علينا التوراةَ ففعل فقالوا: إن الله تعالى لم يقذِف التوراةَ في قلب رجلٍ إلا لأنه ابنُه تعالى الله عن ذلك علواً كبـيراً. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود أضاعوا التوارةَ وعمِلوا بغير الحقِ فأنساهم الله تعالى التوراةَ ونسخها من صدورهم ورفع التابوتَ فتضرع عزيرٌ إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظُ التوراةِ إلى قلبه فأنذر قومه به ثم إن التابوت نزلَ فعرضوا ما تلاه عزيرٌ على ما فيه فوجدوه مثلَه فقالوا ما قالوا.

{ وَقَالَتِ ٱلنَّصَـٰرَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } هو أيضاً قولٌ لبعضهم وإنما قالوه استحالةً لأن يكون ولدٌ بغير أبٍ أو لأن يفعَلَ ما فعله من إبراء الأكمهِ والأبرصِ وإحياءِ الموتى مَنْ لم يكن إلٰهاً { ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما صدر عنهم من العظيمتين، وما فيه معنى البُعد للدِلالة على بُعد درجةِ المشار إليه في الشناعة والفظاعة { قَوْلُهُم بِأَفْوٰهِهِمْ } إما تأكيدٌ لنسبة القولِ المذكورِ إليهم ونفي التجوّزِ عنها أو إشعارٌ بأنه قولٌ مجرد عن برهان وتحقيقٍ مماثل للمُهمل الموجودِ في الأفواه من غير أن يكون له مصِداقٌ في الخارج { يُضَـٰهِئُونَ } أي في الكفر والشناعةِ وقرىء بغير همز { قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي يشابه قولُهم ـ على حذف المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه عند انقلابِه مرفوعاً ـ قولَ الذين كفروا { مِن قَبْلُ } أي من قبلهم وهم المشركون الذين يقولون: الملائكةُ بناتُ الله أو اللاتُ والعزّى بناتُ الله لا قدماؤهم كما قيل إذ لا تعددَ في القول حتى يتأتّى التشبـيهُ، وجعلُه بـين قولي الفريقين مع اتحاد المقولِ ليس فيه مزيدُ مزيةٍ وقيل: الضميرُ للنصارى أي يضاهي قولُهم: المسيحُ ابنُ الله قولَ اليهودِ عزيرٌ الخ لأنهم أقدمُ منهم وهو أيضاً كما ترى فإنه يستدعي اختصاصَ الردِّ والإبطالَ بقوله تعالى: { ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوٰهِهِمْ } بقول النصارى: { قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ } دعاءٌ عليهم جميعاً بالإهلاك فإن مَنْ قاتله الله هلك، أو تعجّبٌ من شناعة قولِهم { أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } كيف يُصْرفون من الحق إلى الباطل والحالُ أنه لا سبـيل إليه أصلاً.