التفاسير

< >
عرض

ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٤١
لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
٤٢
-التوبة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ ٱنْفِرُواْ } تجريدٌ للأمر بالنفور بعد التوبـيخِ على تركه الإنكار على المساهلة فيه وقوله تعالى: { خِفَافًا وَثِقَالاً } حالان من ضمير المخاطبـين أي على أيّ حالٍ كان من يُسر وعُسر حاصلَين بأي سببٍ كان من الصِحة والمرض، أو الغِنى والفقر، وقلةِ العيال وكثرتِهم أو غير ذلك مما ينتظمه مساعدةُ الأسباب وعدمُها بعد الإمكان والقدرةِ في الجملة، وما ذكر في تفسيرهما من قولهم: خفافاً لقلة عيالِكم وثقالاً لكثرتها أو خِفافاً من السلاح وثِقالاً منه أو رُكباناً ومُشاةً أو شباناً وشيوخاً أو مهازيلَ وسِماناً أو صِحاحاً ومِراضاً ليس لتخصيص الأمرَين المتقابلَين بالإرادة من غير مقارنةٍ للباقي وعن ابن أمّ مكتومٍ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعليّ أن أنفِر؟ قال عليه الصلاة والسلام: «نعم» حتى نزل { { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ } . وعن ابن عباس رضي الله عنهما نسخت بقوله عز وجل: { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاء وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } [التوبة: 91] الآية { وَجَـٰهِدُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } إيجابٌ للجهاد بهما إن أمكن وبأحدهما عند إمكانِه وإعوازِ الآخَر، حتى إن من ساعده النفسُ والمالُ يجاهدُ بهما ومن ساعده المالُ دون النفسِ يغزو مكانَه مَنْ حالُه على عكس حالِه. إلى هذا ذهب كثيرٌ من العلماء وقيل: هو إيجابٌ للقسم الأول فقط { ذٰلِكُمْ } أي ما ذكر من النفير والجهادِ، وما في اسم الإشارةِ من معنى البعدِ للإيذان ببعد منزلِته في الشرف { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي خيرٌ عظيمٌ في نفسه أو خبر مما يبتغىٰ بتركه من الراحة والدعةِ وسَعةِ العيشِ والتمتع بالأموال والأولاد { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي تعلمون الخيرَ علمتم أنه خيرٌ أو إن كنتم تعلمون أنه خيرٌ إذ لا احتمال لغير الصدقِ في أخبار الله تعالى فبادروا إليه.

{ لَّوْ كَانَ } صرفٌ للخطاب عنهم وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعديداً لما صدَر عنهم من الهَنات قولاً وفعلاً على طريق المباثةِ وبـياناً لدناءة هممِهم وسائرِ رذائلِهم أي لو كان ما دعَوا إليه { عَرَضًا قَرِيبًا } العرَضُ ما عرَض لك من منافعِ الدنيا أي لو كان ذلك غُنماً سَهلَ المأخذِ قريبَ المنال { وَسَفَرًا قَاصِدًا } (ذا قصدٍ) بـين القريبِ والبعيد { لاَّتَّبَعُوكَ } في النفير طمعاً في الفوز بالغنيمة، وتعليقُ الاتباعِ بكلا الأمرين يدل على عدم تحققِه عند توسّط السفرِ فقط { وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ } أي المسافةُ الشاطّةُ التي تُقطع بمشقة وقرىء بكسر العين والشين { وَسَيَحْلِفُونَ } أي المتخلفون عن الغزو وقوله تعالى: { بِٱللَّهِ } إما متعلقٌ بسيحلفون أو هو من جملة كلامِهم والقولُ مرادٌ على الوجهين أي سيحلفون بالله اعتذاراً عند قفولك قائلين: { لَوِ ٱسْتَطَعْنَا } أو سيحلِفون قائلين: بالله لو استطعنا الخ، أي ولو كان لنا استطاعةٌ من جهة الصحةِ أو من جهتهما جميعاً حسبما عنّ لهم من الكذب والتعللِ، وعلى كلا التقديرين فقوله تعالى: { لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } سادٌّ مسدَّ جوابـي القسمِ والشرط جميعاً. أما على الثاني فظاهرٌ وأما على الأول فلأن قولَهم: لو استطعنا في قوة بالله لو استطعنا لأنه بـيانٌ لقوله تعالى: { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ } وتصديقٌ له، والإخبارُ بما سيكون منهم بعد القُفولِ ـ وقد وقع حسبما أُخبر به ـ من جملة المعجزات الباهرة، وقرىء لو استطعنا بضم الواو تشبـيهاً لها بواو الجمع كما في قوله عز وجل: { { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ } [البقرة: 94] { يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } بدلٌ من سيحلفون لأن الحلِفَ الكاذبَ إهلاكٌ للنفس ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "اليمينُ الفاجرةُ تدع الديارَ بلاقِعَ" . أو حالٌ من فاعله أي مهلِكين أنفسَهم أو من فاعل خرَجْنا، جيء به على طريقة الإخبارِ عنهم كأنه قيل: نهلك أنفسَنا أي لخرَجْنا معكم مهلِكين أنفسَنا كما في قولك: حلَف ليفعلن مكان لأفعلن { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } أي في مضمون الشرطيةِ وفيما ادّعَوا ضمناً من انتفاء تحققِ المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا.