التفاسير

< >
عرض

يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
٦٢
أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْخِزْيُ ٱلْعَظِيمُ
٦٣
-التوبة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ } الخطابُ للمؤمنين خاصةً وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرَهم بالأيمان ليعذُروهم ويرضَوا عنهم أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نُقل إليهم مما يورث أذاةَ النبـيِّ صلى الله عليه وسلم وأما التخلفُ عن الجهاد فليس بداخل في هذا الاعتذارِ { لِيُرْضُوكُمْ } بذلك، وإفرادُ إرضائِهم بالتعليل مع أن عمدةَ أغراضِهم إرضاءُ الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قبِل عليه الصلاة والسلام ذلك منهم ولم يكذّبْهم للإيذان بأن ذلك بمعزل من أن يكون وسيلةً إلى إرضائه عليه الصلاة والسلام وأنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يكذبهم رفقاً بهم وستراً لعيوبهم لا عن رضا بما فعلوه كما أشير إليه { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } أي أحقُّ بالإرضاء ولا يتسنى ذلك إلا بالطاعة والمتابعةِ وإيفاءِ حقوقِه عليه الصلاة والسلام في باب الإجلالِ والإعظامِ مَشهداً ومَغيباً وأما ما أتَوا به من الأَيمان الفاجرة فإنما يرضىٰ به من انحصر طريقُ علمِه في الأخبار إلى أن يجيءَ الحقُّ ويزهَقَ الباطلُ. والجملةُ نصبٌ على الحالية من ضمير يحلفون أي يحلفون لكم لإرضائكم والحالُ أنه تعالى ورسولُه أحقُّ بالإرضاء منكم أي يُعرضون عما يُهِمُّهم ويجديهم ويشتغلون بما لا يَعنيهم، وإفرادُ الضمير في يُرْضوه إما للإيذان بأن رضاه عليه الصلاة السلام مندرجٌ تحت رضاه سبحانه وإرضاؤُه عليه الصلاة والسلام إرضاءٌ له تعالى لقوله تعالى: { { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء: 80] وإما لأنه مستعارٌ لاسم الإشارةِ الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور كما في قول رؤبة:

فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَقكأنه في الجلد توليعُ البهقْ

أي كأن ذلك. لا يقال أيُّ حاجةٍ إلى الاستعارة بعد التأويل المذكورِ لأنا نقول: لولا الاستعارةُ لم يتسنَّ التأويل لما أن الضميرَ لا يتعرض إلا لذات ما يرجِع إليه من غير تعرضٍ لوصف من أوصافه التي من جملتها المذكوريةُ وإنما المتعرضُ لها اسمُ الإشارةِ وإما لأنه عائدٌ إلى رسوله، والكلامُ جملتان حُذف خبرُ الأولى لدلالة خبرِ الثانية عليه كما ذهب إليه سيبويه، ومنه قولُ من قال:

نحن بما عندنا وأنت بماعندك راضٍ والرأيُ مختلف

أو إلى الله على أن المذكورَ خبرُ الجملة الأولى وخبرُ الثانيةِ محذوفٌ كما هو رأي المبرد { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } جوابُه محذوفٌ تعويلاً على دِلالة ما سبق عليه أي إن كانوا مؤمنين فليُرْضوا الله ورسولَه بما ذكر فإنهما أحقُّ بالإرضاء.

{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ } أي أولئك المنافقون، والاستفهامُ للتوبـيخ على ما أقدَموا عليه من العظيمة مع علمهم بسوء عاقبتِها، وقُرىء بالتاء على الالتفات لزيادةِ التقريعِ والتوبـيخ أي ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فنون القوارعِ والإنذارات { أَنَّهُ } أي الشأنَ { مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } المحادَّةُ من الحدّ كالمُشاقّة من الشَّق والمعاداةُ من العُدوة بمعنى الجانبِ فإن كلَّ واحدٍ من مباشري كلِّ الأفعالِ المذكورة في محل غيرِ محلِّ صاحبِه، ومَنْ شرطيةٌ جوابُها قوله تعالى: { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } على أن خبرَه محذوفٌ أي فحَقٌّ أن له نارَ جهنم، وقرىء بكسر الهمزةِ والجملةُ الشرطيةُ في محلّ الرفعِ على أنها خبرٌ لأن وهي مع خبرها سادةٌ مسدَّ مفعولي يعلموا، وقيل: المعنى فله، وإنّ تكريرٌ للأولى تأكيداً لطول العهدِ لا من باب التأكيدِ اللفظيِّ المانعِ للأولى من العمل، ودخولُ الفاءِ كما في قول من قال:

لقد علم الحيُّ اليمانُونَ أننيإذا قلتُ: أما بعدُ، أني خطيبُها

وقد جوّز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه، وجوابُ الشرط محذوفٌ تقديرُه ألم يعلموا أنه من يحاددِ الله ورسولَه يهلِكْ فإن له الخ، ورُدّ بأن ذلك إنما يجوز عند كونِ فعلِ الشرط ماضياً أو مضارعاً مجزوماً بلم { خَالِداً فِيهَا } حالٌ مقدّرةٌ من الضمير المجرورِ إن اعتُبر في الظرف ابتداءُ الاستقرار وحدوثُه وإن اعتبر مطلقُ الاستقرارِ فالأمرُ ظاهر { ذٰلِكَ } أشير إلى ما ذكر من العذاب الخالدِ بذلك إيذاناً ببُعد درجتِه في الهول والفظاعةِ { ٱلْخِزْىُ ٱلْعَظِيمُ } الخزيُ الذلُّ والهوانُ المقارِنُ للفضيحة والندامة، وهي ثمراتُ نفاقِهم حيث يفتضحون على رؤوس الأشهادِ بظهورها ولُحوقِ العذاب الخالدِ بهم، والجملةُ تذيـيلٌ لما سبق.