التفاسير

< >
عرض

وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
٦
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ
٧
-التوبة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِنْ أَحَدٌ } شروعٌ في بـيان حكم المتصدِّين لمبادي التوبة من سماع كلامِ الله تعالى والوقوفِ على شعائر الدين إثرَ بـيانِ حُكمِ التائبـين عن الكفر والمُصِرِّين عليه وهو مرتفعٌ بشرط مضمرٍ يفسِّره الظاهرُ لا بالابتداء لأن إنْ لا تدخل إلا على الفعل { مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ } بعد انقضاءِ الأجل المضروبِ أي سألك أن تُؤَمِّنه وتكونَ له جاراً { فَأَجِرْهُ } أي أمِّنه { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } ويتدبرَه ويطّلع على حقيقة ما يدعو إليه. والاقتصارُ على ذكر السماعِ لعدم الحاجةِ إلى شيء آخرَ في الفهم لكونهم من أهل اللسَنِ والفصاحةِ، و(حتى) سواءٌ كانت للغاية أو للتعليل متعلقةٌ بما بعدها لا بقوله تعالى: { ٱسْتَجَارَكَ } لأنه يؤدّي إلى إعمال حتى في المضمر وذلك مما لا يكاد يرتكب في غير ضرورةِ الشعر كما في قوله:

فلا والله لا يُلفىٰ أناسفتىً حتاك يا ابنَ أبـي يزيدِ

كذا قيل إلا أن تعلّق الإجارةِ بسماع كلامِ الله تعالى بأحد الوجهين يستلزمُ تعلقَ الاستجارةِ أيضاً بذلك أو بما في معناه من أمور الدينِ، وما رُوي عن عليَ رضي الله عنه أنه أتاه رجلٌ من المشركين فقال: إن أراد الرجلُ منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجلِ لسماع كلامِ الله تعالى أو لحاجة قتل؟ قال: لا لأن الله تعالى يقول: { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } الخ فالمرادُ بما فيه من الحاجة هي الحاجةُ المتعلقةُ بالدين لا ما يعمها وغيرَها من الحاجات الدنيوية كما ينبىء عنه قوله: أن يأتي محمداً، فإن من يأتيه عليه السلام إنما يأتيه للأمور المتعلقةِ بالدين { ثُمَّ أَبْلِغْهُ } بعد استماعِه له إن لم يؤمِنْ { مَأْمَنَهُ } أي مسكنَه الذي يأمَن فيه وهو دارُ قومِه { ذٰلِكَ } يعنى الأمرَ بالإجارة وإبلاغِ المأمن { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } ما الإسلامُ وما حقيقتُه، أو قومٌ جَهَلةٌ فلا بد من إعطاء الأمانِ حتى يفهموا الحقَّ ولا يبقى لهم معذرة أصلاً. { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ } شروعٌ في تحقيق حقيقةِ ما سبق من البراءة وأحكامِها المتفرِّعة عليها وتبـيـينِ الحكمة الداعيةِ إلى ذلك، والمرادُ بالمشركين الناكثون لأن البراءةَ إنما هي في شأنهم، والاستفهامُ إنكاريٌّ لا بمعنى إنكار الواقعِ كما في قوله تعالى { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } [البقرة: 28] الخ، بل بمعنى إنكار الوقوعِ ويكون من الكون التامِّ وكيف في محل النصب على التشبـيه بالحال أو الظرف وقيل: من الكون الناقصِ وكيف خبرُ يكون قُدّم على اسمه وهو عهدٌ لاقتضائه الصدارة، وللمشركين متعلق بمحذوف وقع حالاً من عهد ولو كان مؤخراً لكان صفةً له أو بـيكون عند من يجوز عملَ الأفعالِ الناقصة في الظروف، وعند متعلقٌ بمحذوف وقعَ صفةً لعهدٌ أو بنفسه لأنه مصدرٌ أو بـيكون كما مر، ويجوزُ أن يكون الخبرُ للمشركين وعند كما ذكر أو متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلق به للمشركين ويجوز أن يكون الخبرُ عند الله، وللمشركين إما تبـيـينٌ وإما حالٌ من عهدٌ وإما متعلقٌ بـيكون أو بالاستقرار الذي تعلق به الخبرُ ولا يُبالىٰ بتقديم معمولِ الخبرِ على الاسم لكونه حرفَ جرّ، وكيف على الوجهين الأخيرين نُصب على التشبـيه بالظرف أو الحال كما في صورة الكون التام وهو الأولى لأن في إنكار ثبوتِ العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوتِه للمشركين، لأن ثبوتَه الرابطي فرعُ ثبوتِه العيني فانتفاءُ الأصلِ يوجب انتفاءَ الفرعِ رأساً، وفي توجيه الإنكارِ إلى كيفية ثبوتِ العهدِ من المبالغة ما ليس في توجهه إلى ثبوته لأن كلَّ موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال قطعاً، فإذا انتفى جميعُ أحوال وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البرهاني أي أو في أي حالٍ يوجد لهم عهدٌ معتدٌ به؟ { عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } يستحِقُّ أن يُراعىٰ حقوقُه ويُحافَظَ عليه إلى إتمام المدة ولا يُتعرَّضَ لهم بحسَبه قتلاً ولا أخذاً، وأما أن يأمنوا به من عذاب الآخرة كما قيل فلا سبـيلَ إلى اعتباره أصلاً إذ لا دخلَ لعهدهم في ذلك الأمنِ قطعاً وإن كان مرعياً عند الله تعالى وعند رسولِه كعهد غيرِ الناكثين، وتكريرُ كلمة عند للإيذان بعدم الاعتدادِ به عند كلَ منهما على حدة { إِلاَّ ٱلَّذِينَ } استدراكٌ من النفي المفهومِ من الاستفهام المتبادرِ شمولُه لجميع المعاهَدين أي لكون الذين { عَـٰهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } وهم المستثنَوْن فيما سلف، والتعرُّضُ لكون المعاهَدةِ عند المسجدِ الحرامِ لزيادة بـيانِ أصحابِها والإشعارِ بسبب وكادتِها، ومحلُّه الرفعُ على الابتداء خبره قوله تعالى:

{ فَمَا ٱسْتَقَـٰمُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } والفاءُ لتضمنه معنى الشرط وما إما منصوبةُ المحلِّ على الظرفية فتقديرُ المضافِ أي فاستقيموا لهم مدةَ استقامتِهم لكم وإما شرطيةٌ منصوبةُ المحلِّ على الظرفية الزمانية أي أيّ زمان استقاموا لكم فاستقيموا لهم، أو مرفوعةٌ على الابتداء والعائدُ محذوفٌ أي أيُّ زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم فيه وقيل: الاستثناءُ متصلٌ محلُّه النصبُ على الأصل أو الجرُّ على البدل من المشركين والمرادُ بهم الجنسُ لا المعهودُ وأياً ما كان فحكمُ الأمر بالاستقامة ينتهي بانتهاء مدةِ العهدِ لأن استقامتَهم التي وُقّت بوقتها الاستقامةُ المأمورُ بها عبارةٌ عن مراعاة حقوقِ العهدِ، وبعد انقضاءِ مدتِه لا عهدٌ ولا استقامةٌ فصار عينَ الأمرِ الواردِ فيما سلف حيث قيل: فأتِمُّوا إليهم عهدَهم إلى مدتهم خلا أنه فد صرّح به هناك مع كونه معتبراً قطعاً وهو تقيـيدُ الإتمامِ المأمور به ببقائهم على ما كانوا عليه من من الوفاء { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } تعليلٌ للأمر بالاستقامة وإشعارٌ بأن القيامَ بموجب العهدِ من أحكام التقوى كما مر.