التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَٰلِمُونَ
٥١
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٥٢
-البقرة

مقاتل بن سليمان

{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ }، يعنى الميعاد { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً }، يعنى ثلاثين من ذى القعدة وعشر ليال من ذى الحجة، فكان الميعاد الجبل؛ ليعطى التوراة، وكان موسى، عليه السلام، أخبر بنى إسرائيل بمصر، فقال لهم: إذا خرجنا منها أتيناكم من الله عز وجل بكتاب يبين لكم فيه ما تأتون وما تتقون، فلما فارقهم موسى مع السبعين، واستخلف هارون أخاه عليهم، اتخذوا العجل، فذلك قوله سبحانه: { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ }، يقول: من بعد انطلاق موسى إلى الجبل { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } [آية: 51]، وذلك أن موسى قطع البحر يوم العاشر من المحرم، فقال بنو إسرائيل: وعدتنا يا موسى أن تأتينا بكتاب من ربنا إلى شهر، فأتنا بما وعدتنا، فانطلق موسى وأخبرهم أنه يرجع إلى أربعين يوماً عن أمر ربه عز وجل، فلما سار موسى فدنا من الجبل، أمر السبعين أن يقيموا فى أصل الجبل، وصعد موسى الجبل، فكلم ربه تبارك اسمه، وأخذ الألواح فيها التوراة، فلما مضى عشرون يوماً، قالوا: أخلفنا موسى العهد، فعدوا عشرين يوماً وعشرين ليلة، فقالوا: هذا أربعون يوماً، فاتخذوا العجل، فأخبر الله عز وجل موسى بذلك على الجبل، فقال موسى لربه: من صنع لهم العجل؟ قال: السامرى صنعه لهم، قال موسى لربه: فمن نفخ فيه الروح؟ قال الرب عز وجل: أنا، فقال موسى: يا رب، السامرى صنع لهم العجل فأضلهم، وصنعت فيه الخوار، فأنت فتنت قومى، فمن ثم قال الله عز وجل: { { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ } [طه: 85]، يعنى الذين خلفهم مع هارون سوى السبعين حين أمرهم بعبادة العجل.
فلما نزل موسى من الجبل إلى السبعين، أخبرهم بما كان، ولم يخبرهم بأمر العجل، فقال السبعون لموسى: نحن أصحابك جئنا معك ولم نخالفك فى أمر، ولنا عليك حق، فأرنا الله جهرة، يعنى معاينة، كما رأيته، فقال موسى: والله ما رأيته، ولقد أردته على ذلك فأبى، وتجلى للجبل فجعله دكاً، يعنى فصار دكاً، وكان أشد منى وأقوى، فقالوا: إنا لا نؤمن بك ولا نقبل ما جئت به حتى تريناه معاينة، فلما قالوا ذلك أخذتهم الصاعقة، يعنى الموت عقوبة، فذلك قوله سبحانه:
{ { فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } [البقرة: 55]، يعنى الموت، نظيرها: { وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } [الأعراف: 143]، يعنى ميتاً، وكقوله عز وجل: { { فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } [الزمر: 68]، يعنى فمات { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }، يعنى السبعين.
ثم أنعم الله عليهم فبعثهم، وذلك أنهم لما صعقوا قام موسى يبكى، وظن أنهم إنما صعقوا بخطيئة العجل، فقال عز وجل فى سورة الأعراف:
{ { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ } [الأعراف: 155]، وقال: يا رب، ما أقول لبنى إسرائيل إذا رجعت إليهم وقد أهلكت أحبارهم، فبعثهم الله عز وجل لما وجد موسى من أمرهم، فذلك قوله سبحانه: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [آية: 52]، يقول: لكى تشكروا ربكم فى هذه النعمة، فبعثوا يوم ماتوا، ثم انصرفوا مع موسى راجعين، فلما دنوا من العسكر على ساحل البحر، سمعوا اللغط حول العجل، فقاموا: هذا قتال فى المحلة، فقال موسى، عليه السلام: ليس بقتال، ولكنه صوت الفتنة، فلما دخلوا المعسكر رأى موسى ماذا يصنعون حول العجل، فغضب وألقى الألواح، فانكسر منها لوحان، فارتفع من اللوح بعض كلام الله عز وجل، فأمر بالسامرى فأخرج من محلة بنى إسرائيل، ثم عمد إلى العجل فبرده بالمبرد وأحرقه بالنار، ثم ذراه فى البحر، فذلك قوله: { { لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً } [طه: 97].
فقال موسى: إنكم ظلمتم، أى ضررتم، أنفسكم باتخاذكم العجل إلهاً من دون الله سبحانه وتعالى، فتوبوا إلى بارئكم، يعنى خالقكم، وندم القوم على صنيعهم، فذلك قوله سبحانه:
{ { وَلَمَّا سُقِطَ فَيۤ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } يعنى أشركوا بالله عز وجل، { { قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 149]، فقالوا: كيف لنا بالتوبة يا موسى، قال: اقتلوا أنفسكم، يعنى يقتل بعضكم بعضاً، كقوله سبحانه فى النساء: { { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } يقول: لا يقتل بعضكم بعضاً، { { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء: 29]، يعنى ذلك القتل والتوبة خير لكم عند بارئكم، يعنى عند خالقكم.
قالوا: قد فعلنا، فلما أصبحوا أمر موسى، عليه السلام، البقية الاثنى عشر ألفاً الذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوهم بالسيف والخناجر، فخرج من كل بنى أب على حدة من منازلهم، فقعدوا بأفنية بيوتهم، فقال بعضهم لبعض: هؤلاء إخوانكم أتوكم شاهرين السيوف، فاتقوا الله واصبروا، فلعنة الله على رجل حل جيوبه، أو قام من مجلسه، أو اتقى بيد أو رجل، أو حار إليهم طرفة عين، قالوا: آمين، فقتلوهم من لدن طلوع الشمس إلى انتصاف النهار يوم الجمعة، وأرسل الله عز وجل عليهم الظلمة حتى لا يعرف بعضهم بعضاً، فبلغت القتلى سبعين ألفاً، ثم أنزل الله عز وجل الرحمة، فلم يحد فيهم السلاح، فأخبر الله عز وجل موسى، عليه السلام، أنه قد نزلت الرحمة، فقال لهم: قد نزلت الرحمة، ثم أمر موسى المنادى فنادى: أن ارفعوا سيوفكم عن إخوانكم، فجعل الله عز وجل القتلى شهداء، وتاب الله على الأحياء، وعفى عن الذين صبروا للقتل، فلم يقتلوا، فمن مات قبل أن يأتيهم موسى، عليه السلام، على عبادة العجل دخل النار، ومن هرب من القتل لعنهم الله، فضربت عليهم الذلة والمسكنة، فذلك قوله:
{ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا } [الأعراف: 152]، وذلك قوله سبحانه: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [الأعراف: 167].
فكان الرجل يأتى نادى قومه وهم جلوس، فيقتل من العشرة ثلاثة ويدع البقية، ويقتل الخمسة من العشرين، ومن كتب عليهم الشهادة ويبقى الذين لم يقض لهم أن يقتلوا، فذلك قوله عز وجل: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ }، فلم نهلككم جميعاً { مِّن بَعْدِ ذَلِكَ }، يعنى بعد العجل { لَعَلَّكُمْ }، يعنى لكى { تَشْكُرُونَ } [البقرة: 52] ربكم فى هذه النعم، يعنى العفو، فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم، وذلك قوله سبحانه فى الأعراف:
{ { وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا } يعنى من بعد عبادة العجل { { وَآمَنُوۤاْ } يعنى وصدقوا بأن الله واحد لا شريك له، { { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأعراف: 135] لذو تجاوز عنهم رحيم بهم عند التوبة.