{ وَلَقَدْ آتَيْنَا } أعطينا { مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ } ممّن صدف عنه وكذبّ به، كما فعل قومك بالقرآن يُعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } في تأخير العذاب { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أُفرغ من عقابهم وإهلاكهم، يعني المختلفين المخالفين. { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } موقع في الريب والتهمة، يقال: أراب الرجل، أي جاء بريبة، وألام إذا أتى بما يُلام عليه، قال الشاعر:
تعد معاذراً لا عذر فيهاومن يخذل أخاه فقد ألاما
{ وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا } اختلف فيه القُرّاء، فقرأ ابن عامر وأبو جعفر وحمزة { وَأنَ } بتخفيف النون وَ{ لَمَّا } بتشديد الميم على معنى فأنّ كلاً لمّا { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ }، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة،كقول الشاعر:
كان من أخرها لقادممخرم نجد فارع المحارم
أراد إلى القادم، فحذف اللام عند اللام وتكون { مَآ } بمعنى من تقديره لممّن يوفينّهم، كقول الشاعر:
وأنّيَ لمّا أصدر الأمر وجههإذا هو أعيا بالسبيل مصادره
وقيل: أراد وأن كلا لمّاً بالتنوين والتشديد، قرأها الزهري بالتنوين أي وإن كلاً شديداً وحقاً ليوفينّهم { رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } من قوله تعالى: كلاّ لمّا، أي شديداً فحذفوا التنوين وأخرجوه على هذا فعلى، كما فعلوا في قوله: ثم أرسلنا رسلنا تترى، وقرأ نافع وابن كثير بتخفيف النون والميم على معنى إن الثقيلة مخفّف، وأنشد أبو زيد:
ووجه مشرق النحر كأنْ ثدييه حُقّان
أراد كان فخفّف ونصب به، و { مَآ } صلة تقديره وإن كلا ليوفينّهم. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب وحفص وأيوب وخلف بتشديد النون وتخفيف الميم على معنى وأن كُلاً ليوفينّهم، جعلوا { مَآ } صلة. وقيل: أرادوا وأن كلا لممّن كقوله { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [النساء: 3]أي من. وقرأ أبو بكر بن عياش بتخفيف النون وتشديد الميم أراد أن الثقيلة فخفّفها.
وقيل: { إِنَّ } بمعنى { مَا } الجحد و { لَّمَّا } بمعنى { إلاَّ } تقديره وما كلاً إلاّ ليوفينّهم، ولكنه نصب كلاّ بإيقاع التوفية عليه أي ليوفينّ كلا وهو أبعد القراءات فيها من الصواب، { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.
{ فَٱسْتَقِمْ } يا محمد على أمر ربك والعمل به والدعاء إليه { كَمَآ أُمِرْتَ } أن لا تشرك بي شيئاً وتوكّل عليّ مما ينوبك، قال السدّي: الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد أُمته.
{ وَمَن تَابَ مَعَكَ } فليستقيموا، يعني المؤمنين { وَلاَ تَطْغَوْاْ } ولا تجاوزوا أمري، وقال ابن زيد: ولا تعصوا الله ولا تخالفوه، وقيل: ولا تتخيّروا.
{ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا يخفى عليه من أعمالكم شيء، قال ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشقّ عليه من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب، فقال: "شيبتني سورة هود وأخواتها" .
{ وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } قال ابن عباس: ولا تميلوا على غيّهم ولا تدهنوا لهم قال، أبو العالية: لا ترضوا على أعمالهم. قتادة: لا تلحقوا بالمشركين. السدّي وابن زيد، ولا تداهنوا الظلمة، ابن كيسان: لا تسكنوا إلى الذين ظلموا.
{ فَتَمَسَّكُمُ } تصيبهم النار { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } أي أعوان يمنعون { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ } يعني الغداة والعشي، قال ابن عباس: يعني صلاة العصر والمغرب. مجاهد: صلاة الفجر وصلاة العشاء،القرظي: هي الفجر والظهر والعصر، الضحاك: صلاة الفجر والعصر، [وقيل: الطرفان] صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف.
{ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } يعني صلاة العتمة، وقال الحسن: هما المغرب والعشاء، قال الأخفش: يعني ساعات الليالي واحدتها زلفة، وأصل الزلفة المنزلة والقربة، ومنه المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة، قال العجاج:
طيّ الليالي زلفاً فزلّفاسماوة الهلال حتى أحقوقفا
وفيه أربع لغات زُلُفاً: بفتح الفاء وضم اللام وهي قراءة العامة، وقرأ أبو جعفر بضم الزاي واللام، وقرأ ابن محيصن بضم الزاي وجزم اللام، وقرأ مجاهد زُلفى، مثل قُربى.
{ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } يعني: إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات، هذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: هي قول العبد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر.
نزلت هذه الآية في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري وكان يبيع التمر فأتته امرأة تبتاع تمراً فقال: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه، فهل لك فيه، فقالت: نعم، فذهب بها إلى بيته فضمها إليه وقبّلها، فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل راود امرأة عن نفسها ولم يبق شيئاً مما يفعل الرجال بالنساء إلاّ ركبه غير أنه لم يجامعها، فقال عمر بن الخطاب: لقد ستر الله عليك لو سترت على نفسك، فلم يردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، وقال: أنظر فيه أمر ربي، وحضرت صلاة العصر، فصلّى النبي صلى الله عليه وسلم العصر، فلما فرغ أتاه جبريل بهذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أين أبو اليسر؟ فقال: ها أناذا يا رسول الله، قال: أشهدت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذهب فإنها كفارة لما عملت فقال عمر: يا رسول الله أهذا له خاصّة أم لنا عامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم بل للناس عامة" .
{ ذٰلِكَ } الذي ذكرناه، وقيل: هو إشارة إلى القرآن { ذِكْرَىٰ } عظة { لِلذَّاكِرِينَ * وَٱصْبِرْ } يا محمد على ما تلقى من الأذى، وقيل: على الأذى، وقيل: على الصلاة، نظير قوله { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [طه: 132] { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } من أعمالهم، وقال فيه ابن عباس: يعني المصلّين.