التفاسير

< >
عرض

الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
١
ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
٢
وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٣
وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٤
-الرعد

الكشف والبيان

{ الۤمۤر } قال ابن عباس: معناه: أنا الله أعلم وأرى { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ } يعني تلك الأخبار التي قصصناها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة { وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ } يعني وهذا القرآن الذي أُنزل { إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } هو { ٱلْحَقُّ } فاعتصم به واعمل بما فيه، فيكون محلّ الذي رفعاً على الابتداء و (الحقّ) خبره، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة، ويجوز أن يكون محلّ (الذي) خفضاً يعني تلك آيات الكتاب وآياتُ الذي أنزل إليك ثم ابتداء الحقّ يعني ذلك الحقّ كقوله: (وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ الْحَقّ) يعني ذلك الحقّ.
وقال ابن عباس: أراد بالكتاب القرآن فيكون معنى الآية على هذا القول: هذه آيات الكتاب يعني القرآن، ثمّ قال: وهذا القرآن الذي أُنزل إليك من ربّك هو الحقّ، قال الفرّاء: وإنْ شئت جعلت (الذي) خفضاً على أنّه نعت الكتاب وإن كانت فيه الواو كما تقول في الكلام: أتانا هذا الحديث عن أبي حفص والفاروق وأنت تريد ابن الخطّاب، قال الشاعر:

أنا الملك القرم وابن الهُماموليث الكتيبة في المزدحم

{ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال مقاتل: نزلت هذه الآية في مشركي مكّة حين قالوا: إنّ محمّداً يقول القرآن من تلقاء نفسه، ثمّ بين دلائل ربوبيّته وشواهد قدرته فقال عزّ من قائل: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ } وهذه الآية من جملة مائة وثمانين آية أجوبة لسؤال المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الربّ الذي تعبده ما فعله وصنيعه؟ وقوله: { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } يعني السواري والدعائم واحدها عمود وهو العمد والبناء، يقال: عمود وعمد مثل أديم وأدم، وعمدان، وكذا مثل رسول ورسل، ويجوز أن يكون العمد جمع عماد، ومثل إهاب وأُهب، قال النابغة:

وخيس الجنّ إنّي قد أذنتُ لهميبنُون تدمُر بالصّفاحِ والعَمَد

واختلفوا في معنى الآية فنفى قومٌ العمد أصلا، وقال: رفع السماوات بغير عمد وهو الأقرب الأصوب، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: يعني ليس من دونها دعامة تدعهما، ولا فوقها علاقة تمسكها، وروى حمّاد بن سملة عن إياس بن معاوية قال: السماء مُقبّبة على الأرض مثل القبر، وقال آخرون: معناه: الله الذي رفع السماوات بعمد ولكن لا ترونها، فأثبتوا العمد ونفوا الرؤية، وقال الفرّاء من تأوّل ذلك فعلى مذهب تقديم العرب الجملة من آخر الكلمة الى أوّلها كقول الشاعر:

إذا أُعجبتك الدهر حال من أمرىًفدعه وأوكل حاله واللياليا
تُهين على ما كان عن صالح بهفان كان فيما لا يرى الناس آليا

معناه: وإن كان فيما يرى الناس لا يألو. وقال الآخر:

ولا أراها تزال ظالمةتحدث لي نكبة وتنكرها

معناه: آراها لا تزال ظالمة فقدّم الجحد.
{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } علا عليه وقد مضى تفسيره، { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } أي ذلّلها لمنافع خلقه ومصالح عباده { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى } أي كلّ واحد منهما يجري الى وقت قُدِّرَ له، وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس ويُخسف القمر وتنكدر النجوم، وقال ابن عباس: أراد بالأجل المُسمّى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهين إليها لا يجاوزانها.
{ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } قال مجاهد: يقضيه وحده { يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } ينتهيان، { لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } لكي توقنوا بوعدكم وتصدّقوه { وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ } بسطها، { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } جبالا، واحدتها راسية وهي الثابتة، يقال: إنّما رسيت السفينة، وأرسيت الوتد في الأرض إذا أثبتّها، قال الشاعر:

حبّذا ألقاه سائرين وهامدوأشعث أرست الوليدة بالفهر

قال ابن عباس: كان أبو قبيس أوّل جبل وضع على الأرض، { وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ } صنفين وضربين { ٱثْنَيْنِ }: قال أبو عُبيدة يكون الزوج واحداً واثنين، وهو هاهُنا واحد، قال القتيبي: أراد من كلّ الثمرات لونين حلواً وحامضاً { يُغْشِي ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يستدلّون ويعتبرون { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } أبعاض متقاربات متدانيات يقرب بعضها من بعض بالجوار ويختلف بالتفاضل، ومنها عذبة ومنها طيبة ومنها طيبة منبت؛ لأنها بجنته ومنها سبخة لا تنبت.
{ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } رفعها ابن كثير وأبو عمرو عطفاً على الجنات، وكسرها الآخرون عطفاً على الأعناب. والصنوان جمع صنو، وهي النخلات يجمعهن أصل واحد فيكون الأصل واحد، ويتشعب به الرؤس فيصير نخلا، كذا قال المفسرون، قالوا: صنوان مجتمع وغير صنوان متفرق.
قال أهل اللغة: نظيرها في كلام العرب، صنوان واحد، واحدها صنو والصنو المثل وفيه قيل: شمَّ الرجل صنوانه ولا فرق فيهما بين التثنية والجمع إلاّ بالإعراب؛ وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة وفي الجمع منونة تجري جريان الإعراب.
خالفوا كلهم على خفض الصاد من صنوان إلاّ أبا عبد الرحمن السلمي فإنه ضم صاده.
{ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ }. قرأ عاصم وحميد وابن الحسن وابن عامر: بالياء على معنى يسقى ذلك كله بماء واحد.
وقرأ الباقون: بالتاء لقوله جنات.
واختاره أبو عبيد قال: وقال أبو عمرو: مما يصدق التأنيث قوله بعضه على بعض ولم يقل بعضه. { وَنُفَضِّلُ }. قرأ الأعمش وحمزة والكسائي: بالياء رداً على قوله يدبّر ويفضّل ويغني.
وقرأها الباقون: بالنون بمعنى ونحن نفضل بعضها على بعض في الأُكل.
قال الفارسي: والدفل والحلو والحامض.
قال مجاهد: كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد.
عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: سمعت
"النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي كرم الله وجهه: الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدةثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } حتى بلغ { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ }"
قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم، كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فبسطها وبطحها فصارت الأرض قطعاً متجاورة، فينزل عليها الماء من السماء فيخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها ويخرج قاتها ويحيي موتاها ويخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد. فلو كان الماء مجاً قيل: إنما هذه من قبل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترقّ قلوب فتخنع وتخشع، وتقسوا قلوب فتلهو وتقسو وتجفو.
وقال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلاّ قام من عنده إلاّ في زيادة ونقصان.
قال الله عزّ وجلّ
{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [الإسراء: 82] { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } الذي ذكرت { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.