التفاسير

< >
عرض

إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً
٩
وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٠
وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً
١١
وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
١٢
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً
١٣
ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
١٤
مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً
١٥
وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً
١٦
-الإسراء

الكشف والبيان

{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أي الطريقة التي [هي أسد وأعدل وأصوب] { وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } وهو الجنة { وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } وهي النار { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ } حذفت الواو هنا في اللفظ والخط ولم يحذف في المعنى لأنها في موضع رفع وكان حذفها باستقالتها اللام الساكنة كقوله { { سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } [العلق: 18] { { وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ } [الشورى: 24]، و { يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 146] (وينادي المنادي) { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } [القمر: 5] ومعنى الآية ويدع الانسان على [ماله وولده ونفسه بالسوء] وقوله عند الضجر والغضب: اللهم العنه اللهم أهلكه { دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ } أي كدعائه ربه أن يهب له العافية والنعمة ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده [بالشر لهلك] ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك، نظيره قوله تعالى { { وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [يونس: 11] { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } عجلاً بالدعاء على مايكره أن يستجاب له فيه.
قال مجاهد وجماعة من المفسرين، وقال ابن عبّاس: [يريد] ضجراً لا صبراً له على سراء ولا ضرّاء.
وقال قوم من المفسرين: أراد الانسان آدم.
قال سلمان الفارسي: أول ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق جسده فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لو يبث فيها الروح، فقال: يارب عجّل قبل الليل فذلك قوله { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً }.
وروى الضحاك عن ابن عبّاس قال: لما خلق الله رأس آدم نظر إلى جسده فأعجبه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } [وقيل: المراد آدم فإنه لما اهتدى للصح إلى سترته ذهب لينهض فسقط، يروى أنه علم وقع أسيراً إلى سودة بنت زمعة فرحمته لأنينه فأرخت من كتافه فهرب فدعا النبي عليها بقطع اليد ثم ندم فقال: اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت هذه الآية]
{ وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ } دلالتين وعلامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا وعدد السنين والحساب { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيْلِ } قال أبو الطفيل: سأل ابن الكواء علياً (رضي الله عنه) فقال: ما هذا السواد في القمر؟ فقال علي: { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } وهو المحو.
وقال ابن عباس: الله نور الشمس سبعين جزءاً ونور القمر سبعين جزءاً فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءاً فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءاً والقمر على جزء واحد.
{ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ } وهي الشمس { مُبْصِرَةً } [منيرة مضيئة].
وقال أبو عمرو بن العلا: يعني بصرها.
قال الكسائي: هو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء وصار بحالة يبصرها.
وقال بعضهم: هو كقولهم: [رجل خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافاً فكذلك النهار مبصراً إذا كان أهله بصراء].
{ لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } إلى قوله { فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } بينّاه تبييناً.
مقاتل بن علي عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى لما أبرم خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمساً من نور عرشه وقمراً فكانا جميعاً شمسان فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمساً فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها فيحولها قمراً فخلقها دون الشمس من العظيم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض، فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا النهار من الليل ولا كان يدرك الأجير إلى متى يعمل ومتى يأخذ أجره ولايدري الصائم إلى متى يصوم ومتى يفطر، ولا تدري المرأة كيف تعتد ولا يدري المسلمون متّى وقت صلاتهم ومتى وقت حجهم، ولا يدري الديان متّى يحل دينهم ولا تدري الناس متى يبذرون ويزرعون لمعاشهم ومتى يسكنون لراحة أبدانهم فكان الرب سبحانه أنظر لعباده وأرحم بهم فأرسل جبرائيل (فأمّر) جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور، فذلك قوله تعالى { وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } [والسواد] الذي ترونه في جوف القمر يشبه الخطوط، فهو أثر المحو.
{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } قال ابن عباس: وما قدر عليه [من خير وشر] فهو ملازمه أينما كان.
الكلبي ومقاتل: خيره وشره معه لايفارقه حتّى يحاسب به [وتلا الحسن: { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } ] ثمّ قال يا بن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان أحدهما عن يمينك والآخر [عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذين عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً].
مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلاّ وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد.
وقال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قضى عليه [أنه] عامله في ماهو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وإنّما عبر عنه بالطائر على عادة العرب كما كانت تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها.
أبو عبيد والعيني: أراد بالطائر حظه من الخير والشر عن قولهم طار منهم فلان بكذا أيّ جرى له الطائر بكذا.
وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء: طائره في عنقه بغير ألف وإنّما خص عنقه دون سائر أعضائه، لأن العنق موضع السمات وموضع القلائد والأطراف وغير ذلك مما يشين أو يزين، فجرى كلام العرب [بنسبة الأشياء اللازمة] إلى الأعناق فيقولون هذا في عنقي حتّى أخرج منه وهذا الشيء [لازم صليت] عنقه.
{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً } قرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن ويعقوب: ويخرج بفتح الياء وضم الراء على معنى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتاباً نصب كتاباً على الحال، ويحتمل أن يكون معناه ويخرج له الطائر فيصير كتاباً.
وقرأ أبو جعفر: ويخرج بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل ومجازه ويخرج له الطائر كتاباً.
وقرأ يحيى بن وثاب: ويخرج أيّ ويخرج الله.
وقرأ الباقون: بنون مضمومة وكسر الراء على معنى ونحن نخرج له يوم القيامة كتاباً ونصب كتاباً بإيقاع الاخراج عليه واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله الزمناه.
{ يَلْقَاهُ } قرأ أبو عامر وأبو جعفر: تلقاه بضم التاء وتشديد القاف يعني تلقى الانسان ذلك الكتاب أي [يؤتا]. وقرأ الباقون: بفتح الياء أي يراه.
{ مَنْشُوراً } نصب على الحال.
عن بسطام بن مسلم قال: سمعت أبا النباج يقول سمعت أبا السوار العدوي يقرأ هذه الآية ثمّ قال: نشرتان وعليه ماحييت يابن آدم فصحيفتك منشورة فاعمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت ثمّ إذا بعثت نشرت.
{ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ } يعني فيقال له إقرأ كتابك { كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } محاسباً مجازياً.
قتادة: سيقرأ يومئذ كل من لم يكن في الدنيا [مُجَازياً].
وقال الحسن: [قد عدل والله عليك] من جعلك حسيب نفسك.
{ مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ } لها نوليه { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } لأن عليها عقابه { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } ولا يحمل حامله عمل أخر من الأثام { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } إقامة للحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا }.
قرأ عثمان النهدي وأبو رجاء العطاردي وأبو العالية [وأبو جعفر] ومجاهد: أمّرنا بتشديد الميم أيّ خلطنا [شرارها] فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو حياة الشامي ويعقوب: أمرنا ممدودة أي أكثرنا.
وقرأ الباقون: بكسر الميم، أي أمرناهم بالطاعة فعصوا، ويحتمل أن يكون بمعنى جعلناهم أمراً لأن العرب تقول أمر غير مأمور أي غير مؤمر، ويجوز أن يكون بمعنى أكثر مايدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم
"خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة" أراد بالمأمورة كثرة النسل ويقال للشيء الكثير: أمر، والفعل منه أمر يأمرون أمراً إذا كثروا.
وقال لبيد:

كل بني حرة مصيرهمقل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا،يوماً يصيروا للهلك والنفذ

وإختاره أبو عبيد وأبو حاتم وقرأه العامّة.
وقال أبو عبيد: إنما إخترنا هذه القراءة، لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والأمارة والكثرة، { مُتْرَفِيهَا } [...........] وهم أغنياؤها ورؤساءها { فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } يوجب عليها العذاب { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } فجزيناهم [وأهلكناهم إهلاكاً بأمر فيه أُعجوبة].
روى معمر عن الزهري قال:
"دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على [زينب] وهو يقول: لا إله إلاّ الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه قالت: يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم إذا كثر الخبث" .