التفاسير

< >
عرض

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ
١٩٨
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٩٩
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
٢٠٠
وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ
٢٠١
أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٢٠٢
وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٠٣
-البقرة

الكشف والبيان

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } الآية قال المفسرون: كان ناس من العرب لا يتّجرون في أيام الحج فإذا دخل العشر كفّوا عن الشراء والبيع فلم يقم لهم سوق وكانوا يسمون من يخرج إلى الحجّ ومعه تجارة: الداج، فأنزل الله تعالى هذه الآية واباح التجارة في الحج.
فقال ابن عبّاس: كانت عكاظ ومجنة وذو الحجاز أسواقاً في الجاهلية كانوا يتجرون فيها في الموسم وكان أكثر معايشهم منها فلما جاء الإسلام كأنهم تأثموا منها فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية.
وقال أبو أُمامة التيمي: قلت لابن عمر: إنّا قوم نكري فيدعمون المؤمنين في الحج.
فقال: ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون الحجارة كما يرومون؟
قلت: بلى. قال: انتم حاج، جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول له حتّى نزل جبرئيل بهذه الآية { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } يعني التجارة وكان ابن عبّاس يقرأها { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } في مواسم الحج.
الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج به الخاص فإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للجار، وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين، وإذا كان عند جمرة العقبة (غفر اللَّه للسؤال) ولا شهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلاّ الله إلاّ غفر له" .
{ فَإِذَآ أَفَضْتُم } رجعتم ودعيتم بكرة.
يقال: أفاض القوم في الحديث إذاً اندفعوا فيه وأكثروا التصرف.
قال الشاعر:

فلما أفضنا في الحديث وأسمحت أتتنا عيون بالنميمة تضرب

وأصلها من قول العرب أفاض الرجل ماءه إذا صبّه، وأفاض البعير (تجرعه) إذا رمى ودفع بها من كرشه.
قال الراعي:

فأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الابارق إذا رعين حقيلاً

ويقال: أفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها لأنها موضع بقع متفرقة.
قال أبو ذهيب:

يصف الحمار والأنف وأتته ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع

ولا تكون الافاضة في اللغة إلاّ عن تفرق وكثرة قال عمر بن الخطاب: الافاضة الانصداع.
{ مِّنْ عَرَفَاتٍ } القراءة بالكسر والتنوين لانه جمع عرفة مثل مسلمات ومؤمنات، فسميت بها بقعة واحدة مثل قولهم: أرض سباسب وثوب اخلاق يجمع بها حولها، فلما سميت بها البقعة الواحدة صرفت إذا كانت مصروفة قبل ان يسمى بها البقعة تركاً منهم لها على أصلها فإذا كانت في الأصل بقعة واحدة ولم يكن جمعاً تركوا إجزاءها ونصبوا تاءها في حال الخفض مثل عانات وأذرعات فرقا بين الاسم وبين الجمع، واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله قيل للموقف عرفات وليوم الوقوف بها عرفة.
فقال الضحاك: إن آدم لما أُهبط وقع في الهند وحواء بجدة فجعل آدم يطلب حواء وهي تطلبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم عرفة والموضع عرفات.
أبو حمزة الثمالي عن السّدي قال: إنّها سميت عرفات لأن هاجر حملت إسماعيل عليه السلام فأخرجته من عند سارة وكان إبراهيم غائباً فلما قدم لم ير إسماعيل فحدثته سارة بالذي صنعت هاجر فانطلق في طلب إسماعيل فوجده مع هاجر بعرفات فعرفه فسميت عرفات.
وعن علي بن الأشدق عن عبدالله بن (حراد) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ان إبراهيم غدا من فلسطين فحلفت سارة إن لا ينزل عن ظهر دابته حتّى يرجع إليها من الغيرة فأتى إسماعيل ثمّ رجع فحبسته سارة سنة ثمّ استأذنها فأذنت له فخرج حتّى بلغ مكّة وجبالها فبات ليلة يسير ويسعى حتّى أذن الله عزّ وجلّ له في ثلث الليل الأخير عند سند جبل عرفة، فلما أصبح عرف البلاد والطريق فجعل الله عزّ وجلّ عرفة حيث عرف فقال: اجعل بيتك أحبَّ بلادك إليك حتّى يهوي الله قلوب المسلمين من كلّ فج عميق" .
عبد الملك عن عطاء قال: إنّما سميت عرفات لأن جبرئيل عليه السلام كان يُري إبراهيم المناسك ويقول: عرفت ثمّ يُريه فيقول: عرفت فسميت عرفات.
وروى سعيد بن المسيب عن علي رضي الله عنه قال: بعث الله عزّ وجلّ جبرئيل إلى إبراهيم فحج به حتّى إذا [جاء] عرفات قال: قد عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك فسميت عرفات.
وروى أبو الطفيل عن ابن عبّاس قال: إنّما سمي عرفة لأن جبرئيل عليه السلام أرى إبراهيم فيه بقاع مكّة ومشاهدها وكان يقول يا إبراهيم هذا موضع كذا وهذا موضع كذا ويقول قد عرفت، قد عرفت.
وروى اسباط عن السّدي قال: لما أذن إبراهيم بالناس فأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات فنعتها له فلمّا خرج وبلغ الشجرة المستقبلة للشيطان فرماه بسبع حصيات يكبّر مع كلّ حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبّر فطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر فلما رأى إنه لا يطيقه ذهب، فانطلق إبراهيم حتّى أتى ذا المجاز فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فكذلك سُمّي ذو المجاز فانطلق حتّى وقف بعرفات، فلما نظر إليها عرفها بالنعت فقال: عرفت، فسمي عرفات بذلك وسمي ذلك اليوم عرفة لأن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه أن يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح يومه أجمع أيّ فكر أمن الله هذا الحكم أمن الشيطان وسمي اليوم من فكرته تروية ثمّ رأى ليلة عرفة ذلك ثانياً فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي اليوم يوم عرفة.
وقال بعضهم: سميت بذلك لأن الناس يعترفون في هذا اليوم على ذلك [الموقف] بالذنوب والأصل نسيان آدم عليه السلام لما أمر بالحجّ وقف بعرفات يوم عرفة قال:
{ { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23].
وقيل: هي مأخوذة من العرف، قال الله تعالى
{ { وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [محمد: 6] أي طيّبها، قالوا: فمنى موضع بمنى وفيه الدم أي يصب فلذلك سميَّ منى ففيه يكون الفروث والانذار والدماء وليست بطيبة، وعرفات ليس فيها وهي طيبة فلذلك سميت عرفات ويوم الوقوف بها عرفة. وقيل: لأن الناس يتعارفون بها.
وقال بعضهم: أصل هذين الأسمين من الصبر، يقال: رجل عارف إذا كان صابراً خاضعاً خاشعاً ويقال في المثل: النفس عروف وما حمّلتها تتحمل.
قال الشاعر:

فصبرت عارفة لذلك حرّة ترسوا إذا نفس الجنان تطلع

أي نفساً صابرة.
وقال ذو الرمّة:

عروف لما خطت عليه المقادر

أي صبور على قضاء الله، فسميا بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم وصرفهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمالهم الشدائد والميقات لإقامة هذه العبادة.
{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } بالتلبية والدعاء { عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ } وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسّر، وليس مأزماً عرفة من المشعر، وإنّما سمي مشعراً من الشعار وهو العلامة، لأنه معلم للحج، والصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده من [معالم] الحج، والمبيت بالمشعر الحرام فرض واجب ومن تركه كان عليه شاة، والدليل عليه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بات بها وقال [انحروا] عنى بمناسككم.
وقال المفضل: سمي مشعراً لأنها شعر المؤمنون أنه حرم كالبيت ومكّة، أيّ اعلموا ذلك، وأصل الحرام المنع، قال الله تعالى [..........] أي الممنوع من المكاسب والشيء المنهي عنه حرام لأنه منع من اتيانه.
وقال زهير:

وإن أتاه (خليل) يوم مسألة يقول لا غائب مالي ولا حرام

أي ولا ممنوع، والمشعر الحرام من أن يفعل فيه ما حرم ولم يرض في اتيانه، ويقال له المشعر الحرام والمزدلفة وقدم [............] بغيرهما والجميع، سمي بذلك لأنه يجمع فيها بين صلاتي العشاء، والافاضة من عرفات بعد غروب الشمس وكان أهل الجاهليّة يفيضون منهما قبل غروب الشمس ومن جمع بعد طلوعها، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير فأمر الله مخالفتهم في الدفعتين جميعاً.
وروى أبو صالح عن ابن عبّاس أنه نظر إلى الناس ليلاً جمع فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة ما ينامون تأولون قول الله تعالى { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ }.
{ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } لدينه ومناسك حجّه { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ } يعني وما كنتم من قبله إلاّ من الضالين كقوله
{ { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } [الشعراء: 186] يعني وان نظنك إلاّ من الكاذبين.
قال الشاعر:

ثكلتك أُمّك إن قتلت لمسلماً حلت عليك عقوبة الرحمن

أي ما قتلت إلاّ مسلماً.
والهاء في قوله (من قبله) عائدة إلى الهدي، وإن شئت على الرسول صلى الله عليه وسلم، كناية عن غير مذكور.
{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } الآية.
قال عامّة المفسّرين: كانت قريش وحلفاؤها ومن دان [بدينها] وهم الحمس لا يخرجون من الحرم إلى عرفات وكانوا يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن أهل الله وقطان حرمه فلا يخلو الحرم ولا نخرج منها، فلسنا كسائر الناس وكانوا يتعاظمون ان يقفوا مع سائر العرب بعرفات، ويقول بعضهم لبعض ألا تعظموا إلاّ الحرم فإنكم إن عظمتم غير الحرم تهاون الناس بحرمتكم فوقفوا الجميع فإذا أفاض الناس من عرفات أفاضوا من المشعر وهو المزدلفة وأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى جمع مع سائر الناس وأخبرهم أنها سنّة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليه السلام.
وقال بعضهم: المخاطبون بهذه الآية المسلمون كلهم والمعنى بقوله { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } جمع أي أفيضوا من جمع إلى منى، وهذا القول اشبه بظاهر القرآن، لأن الافاضة من عرفات قبل الافاضة من جمع بلا شك فكيف يسوغ أن يقول: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) وأما الناس في هذه الآية فهم العرب كلهم غير الحمس.
الكلبي بإسناده: هم أهل اليمن [وربيعة].
الضحاك: الناس هاهنا إبراهيم وحده، يدلّ عليه قوله
{ { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ } [النساء: 54] يعني محمّداً صلى الله عليه وسلم وحده وقوله { { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود الأشجعي { { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [آل عمران: 173] يعني أبا سفيان وإنّما يقال هذا للذي يقتدي به ويكون لسان قومه وإمامهم كقوله { { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل: 120] فذكر الواحد بلفظ الجمع ومثله كثير (وقيل: ) الناس هاهنا آدم عليه السلام، دليله قول سعيد بن جبير: ثمّ افيضوا من حيث افاض الناس، وقيل: هو آدم نسي ما عهد إليه والله أعلم.
الحكم بن عيينة عن مقسم عن ابن عبّاس قال:
" "أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفه وعليه السكينة والوقار رديفه أُمامة وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل، قال: فما رأيتها رافعة يديها عادية الخيل فالإبل حتّى أتى جمعاً" .
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الحجّ وأمره أن يخرج بالناس جميعاً إلى عرفات فيقف بها فإذا غربت الشمس أفاض بالناس منها حتّى يأتي بهم جمعاً فيبيت بها حتّى إذا أصبح بها وصلى الفجر ووقف الناس بالمشعر الحرام ثمّ يفيض منها إلى مِنى قال: فتوجه أبو بكر نحو عرفات فمَّر بالحمس وهم وقوف بجمع فلمّا ذهب يتجاوزهم قالت له الحمس: يا أبا بكر أين تُجاوزنا إلى غيرنا هذا مفيض آبائك فلا تذهب حتّى تفيض أهل اليمن وربيعة من عرفات فمضى أبو بكر لأمر الله وأمر رسوله حتّى أتى عرفات وبها أهل اليمن وربيعة وهم الناس في هذه الآية فوقف بها حتّى غربت الشمس، ثمّ أفاض بالناس إلى المشعر الحرام حتّى وقف بها حتّى إذا كان عند طلوع الشمس أفاض منها" .
{ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
أبي رباح عن أبي طالح السمان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الحجاج والعمار وفد الله عزّ وجلّ إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم" .
عن مجاهد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "اللّهمّ اغفر للحاجّ ولمن إستغفر له الحاجّ" .
وعن علي بن عبد العزيز يقول: كنت عديلاً لأبي عبيد بن سلام لسنة من السنين فلما صرت إلى الموقف تصدق إلى [نفسي] حب النخل فتطهرت ونسيت نفقتي عنده، فلما صرت إلى [المارقين] قال لي أبو عبيدة: لواشتريت لنا زبداً وتمراً، فخرجت لأبتاعه فذكرت النفقة فرجعت عودي على بدئي إلى أن وافيت الموضع فإذا [نفقتي] بحالها فأخذتها ورجعت وكنت قد صادفت الوادي مملوءة قردةً وخنازير وغير ذلك فجزعت عنه، ثمّ إنّي رجعت فإذا هم على حالهم حتّى دخلت على أبي عبيدة قبيل الصبح فسألني عن أمري فخبرته وذكرت القردة، قال: تلك ذنوب بني آدم تركوها وانصرفوا.
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ } [فرغتم] من حجكم وذبحتم مناسككم يقال منه نسك الرجل ينسك نسكاً ونسكاً ونسيكة ومنسكاً إذا ذبح نسكه، والمنسك المذبح مثل المشرق والمغرب، ويقال من [العهد] نسك ومنسك ومونسكاً ونسكاً ونساكه إذا...نظر، وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف فيه وفي أخواته في كل القرآن مثل قوله
{ { مَا سَلَكَكُمْ } [المدثر: 42] لأنهما مثلان.
قال الشاعر:

ولا (نشار) لك عندي بعد واحدة لا والذي أصبحت عندي له نعم

{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ }.
قال أكثر المفسرين في هذه الآية: كانت العرب إذا فرغوا من حجهم وقفوا عند البيت وذكروا مآثر أبائهم ومفاخرهم فكان الرجل يقول إن أبي كان يُقرى الضيف ويضرب بالسيف ويُطعم الطعام وينحر الجزور ويفك العاني ويجز النواصي ويفعل كذا وكذا فيتفاخرون بذلك فأمرهم الله بذكره فقال: فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم واحسنت إليكم وإليهم.
قال السّدي: كانت العرب إذا قضيت مناسكها وأقاموا بِمنى يقوم الرجل فيسأل الله ويقول اللّهمّ إن أبي كان عظيم [الحجة] عظيم القبة كثير المال فأعطني كلّ ما أعطيت أبي ليس يذكر الله إنّما يذكر ويسأل أن يعطى في دنياه فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن عبّاس وعطاء والربيع والضحاك: معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الأباء وهو قول الصبي أول ما يفصح ويفقه الكلام [أبه أمه] ثمّ يلهج بأبيه وأمه.
عن أبي الجوزاء قال: قلت لابن عبّاس أخبرنا عن قوله { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } وقد يأتي على الرجل اليوم لا يذكر أباه فيه. فقال ابن عبّاس: ليس كذلك ولكن من يُغضب الله إذا عصى بأشد من غضبك لوالديك إذا أهنتهما.
القرظي: في قوله { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } قال كذكركم آباءكم إياكم.
{ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } يعني أشد وبل أشد كقوله
{ { أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147] مقاتل: { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } أي أكثر ذكراً كقوله { أَشَدُّ قَسْوَةً } { { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء: 77] وأما وجه إنتصاب (أشد)، فقال الأخفش: اذكروه أشد.
وقال الزجاج: في محل الخفض لكنه لا ينصرف لانه صفة على مفعال أفعل وصفته ذكراً على التمييز.
{ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا } أي أعطنا إبلاً وغنماً وبقراً وعبيداً وإماءً فحذف المفعول.
قال أنس: كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون ويقولون اللّهمّ اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر وردّنا صالحين إلى صالحين.
قتادة: هذا عبدٌ نوى الدنيا لها أنفق ولها عمل ولها [قضت] فهي همه وأمنيته وطلبته.
{ وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } حظ ونصيب { وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } وهم النبيّ والمؤمنون.
واختلفوا في معنى الحسنتين.
فقال علي رضي الله عنه: في الدنيا حسنة إمرأة صالحة وفي الآخرة الحسنة الحور العين.
{ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } المرأة السوء.
قال الحسن: في الدنيا حسنة: العلم والعبادة وفي الآخرة حسنة: الجنّة والرضوان.
السّدي و[ابن حيان]: في الدنيا حسنة رزقاً حلالاً واسعاً وعملاً صالحاً وفي الآخرة حسنة الثواب والمغفرة.
عطية: في الدنيا حسنة العلم والعمل وفي الآخرة حسنة تيسير الحساب ودخول الجنّة.
وقيل: في الدنيا حسنة التوفيق والعصمة وفي الآخرة حسنة النجاة والرحمة. وقيل: في الدنيا حسنة أولاداً أبراراً وفي الآخرة حسنة موافقة الأنبياء.
وقيل: في الدنيا حسنة المال والنعمة وفي الآخرة حسنة تمام النعمة وهو الفوز والخلاص من النّار ودخول الجنّة.
وقيل: في الدنيا حسنة الدين واليقين وفي الآخرة حسنة اللقاء والرضا.
وقيل: في الدنيا حسنة الثبات على الإيمان وفي الآخرة حسنة السلامة والرضوان.
وقيل: في الدنيا حسنة الاخلاص وفي الآخرة حسنة الخلاص.
وقيل: في الدنيا حسنة حلاوة الطاعة وفي الآخرة حسنة لذة الروية.
قتادة: في الدنيا عافية وفي الآخرة عافية.
دليل هذا التأويل ما روى حميد عن أنس
" "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كنت تدعوا له بشيء أو تسأله شيئاً؟ قال: كنت أقول اللّهمّ [ما كنت معاتبي] به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا. فقال: سبحان الله إذاً لا تستطيعه ولا تطيقه فهلاّ قلت: اللّهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار" .
فدعا الله بها فشفاه الله.
سهل بن عبدالله: في الدنيا حسنة السنّة وفي الآخرة حسنة الجنّة.
المسيب عن عوف في هذه الآية قال: من آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلاً ومالاً وولداً فقد أولى في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.
حماد عن ثابت إنّهم قالوا لأنس بن مالك: إدع الله لنا، فقال: اللّهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
قالوا: زدنا، فأعادها، قالوا: زدنا، قال: ما تريدون قد سألت الله تعالى لكم خير الدنيا والآخرة.
قال أنس:
" "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها اللّهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار" .
سفيان الثوري في هذه الآية: في الدنيا حسنة الرزق الطيب والعلم، وفي الآخرة حسنة الجنّة.
مجاهد عن ابن عبّاس قال: عند الركن اليماني ملك قائم منذ خلق الله السماوات والأرض يقول آمين، فقولوا: ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وقال ابن جريج: بلغني إنه كان يؤمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الوقف: اللّهمّ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
{ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } يعني من حجّ عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت.
عن الفضل بن عبّاس
" "إنه كان ردف النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: إن أمي عجوز كبيرة لا تستمسك على الرحل و ان ربطتها [خشيت] أن أقتلها.
فقال له: أرأيت لو كان على أمك دين كنت قاضيه؟ قال: نعم قال: فحجّ عنها"
.
أبو سلمة عن أنس" "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رجل أوصى بحجّة: كتب له أربع حجات: حجّة الذي كتبها، وحجّة الذي نفدها، وحجّة الذي أخذها، وحجة الذي أمر بها" .
وقال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال: إني آجرت نفسي واشترطت عليهم الحجّ (معهم) فهل يجزيني ذلك؟
قال: انت من الذين قال الله { أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ }.
{ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } يعني إذا حاسب فحسابه سريع لانه لا يحتاج إلى تمديد ولا وعي منه ولا روية ولا فكرة.
وقال الحسن: أسرع من لمح البصر.
وفي الحديث ان الله تعالى يحسب في قدر حلب شاة وقيل هو إنه إذا حاسب... واحداً واحداً حاسب جميع الخلق فمعنى الحساب تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم ما نسوه من ذلك، يدلّ عليه قوله
{ { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوۤاْ أَحْصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المجادلة: 6].
{ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } يعني التكبير في الصلوات وعند الجمرات يكبّر مع كلّ حصاة وغيرها من الأوقات.
{ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } وهي أيام التشريق وأيام منى ورمي الجمار والأيام المعلومات عشر ذي الحُجّة، نافع ابن عمر: الأيام المعدودات ثلاثة أيام يوم النحر ويومان بعده.
أبو حنيفة عن حماد بن إبراهيم في قوله { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } قال: المعدودات أيام العشر و المعلومات أيام النحر، والصحيح أن المعدودات أيام التشريق، وعليه أكثر العلماء يدلّ عليه قوله { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } أي منها وإنّما يكون الصدر في أيّام التشريق.
قال الزجاج: ويستعمل المعدودات في اللغة الشيء القليل فسميت بذلك لأنها ثلاثة أيام والأيام المعدودات: أيام التشريق والذكر المأمور فيها التكبير.
قال نافع: كان عمرو وابنه عبد الله يكبران بمنى تلك الأيام جميعاً وخلف الصلوات وفي المجلس وعلى الفراش و القسطاط وفي الطريق ويكبر النّاس [بتكبيرهم] ويناولان هذه الآية قلت: واجمعوا على أن التكبير في هذه الأيام سنّة إلاّ إنّهم اختلفوا في قدرها ووقتها... فكان عبد الله بن مسعود يكبّر من صلاة الغداة من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق وإليه ذهب أبو يوسف ومحمّد بن الحسن وهو أجمع الأقاويل.
كان ابن عبّاس وزيد بن ثابت يكبران من صلاة الظهر من يوم النحر إلى [مدة] العصر من آخر أيام التشريق وهو قول عطاء وهو الأظهر والأشهر من مذهب الشافعي إنه يبتدأ التكبير من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق هذا بالحاج آخر صلاة يصليها الحاج بمنى والناس لهم تبع.
وأما لفظ التكبير فكان سعيد بن جبير يقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر نسقاً وهو مذهب الشافعي وأهل المدينة وكان ابن مسعود يكبر [إثنتين] وهو مذهب أبي حنيفة وأهل العراق.
وروى عن مالك إنه كان يقول الله أكبر الله أكبر ثمّ يقطع فيقول الله اكبر لا إله الاّ الله.
وروى عن قتادة إنّه كان يقول الله أكبر كبيراً الله أكبر على ما هدانا الله أكبر ولله الحمد.
وروى عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله" .
عن جعفر بن محمّد:" "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث منادياً فنادى في أيام التشريق: إنّها أيام أكل وشرب" ، قال الله تعالى { فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ } يعني من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني من أيام التشريق. { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } في تعجله { وَمَن تَأَخَّرَ } عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتّى ينفر في اليوم الثالث { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } في تأخره فإن لم ينفر في اليوم الثاني وأقام حتّى تغرب الشمس فليقم إلى الغد من اليوم الثالث فيرمي الجمار ثمّ ينفر مع الناس، هذا قول ابن عمر وابن عبّاس والحسن وعطاء وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك والنخعي والسّدي قال بعضهم: معناه فمن تعجل في يومين فهو [مغفور له] لا إثمّ ولا ذنب عليه ومن تأخر فكذلك، وهكذا قول علي وأبي ذر وابن مسعود والشعبي ومطرف بن الشخير.
قال معاوية بن [مرة]: خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
قال إسحاق بن يحيى بن طلحة: سألت مجاهد عن ذلك قال: فمن تعجل في يومين فلا إثمّ عليه إلى قابل ومن تأخر فلا إثمّ عليه أيضاً إلى قابل.
وقال سعيد بن المسيب: توفي رجل بمنى في آخر أيام التشريق فقيل لعمر: توفي ابن الخنساء أفلا نشهر دفنه، فقال عمر: وما يمنعني أن أدفن رجلاً لم يذنب منذ غفر له.
{ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ } اختلفوا في معناه.
فقال ابن عبّاس في رواية العوفي والكلبي: لمن اتقى قتل الصيد لا يحل له أن يقتل صيداً حتّى ينقضي أيام التشريق.
قتادة: لمن اتقى أن يصيب في حجر شيئاً نهاه الله عزّ وجلّ عنه فيه.
أبو العالية: ذهب اثمه كلّه إن اتقى فيما بقى من عمره، وكان ابن مسعود يقول إنّما حطت مغفرة الذنوب لمن اتقى الله في حجّه.
ابن جريح: وهو في مصحف عبدالله لمن اتقى الله، جويبر عن الضحاك عن ابن عبّاس لمن اتقى عبادة الأوثان.
وروى عن ابن عبّاس أيضاً: لمن اتقى معاصي الله قال: ووددت أني من هؤلاء الذين يصيبهم اسم التقوى.
{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } يجمعون في الآخرة فيجزيكم بإعمالكم.