التفاسير

< >
عرض

وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
٢٣٥
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ
٢٣٦
وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٣٧
-البقرة

الكشف والبيان

{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يا معشر الرجال { فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ } النساء المعتدّات، وأصل التعريض التلويح بالشيء. قال الشاعر:

كما خطّ عبرانيّة بيمينه بتيماء حبر ثم عرّض أسطرا

والتعريض في الكلام ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع من غير تصريح، وأصله من عرض الشيء وهو جانبه يقال: أضرب به عرض الحائط كأنه يحوم حوله ولا يظهره، وتعريض الخطبة المذكورة في هذه الآية على ما جاء في التفسير هو أن يقول لها وهي في العدة: إنّك لجميلة، وإنك لصالحة، وإنّك لنافعة، وإنّ من عزمي أن أتزوج، وإني فيك لراغب، وإني عليك لحريص، ولعلّ الله أن يسوق إليك خيراً، وإنْ جمع الله بيننا بالحلال أعجبني، ولئن تزوجتك لأعطيتك ولأحسن إليك ونحوها من الكلام من غير أن يقول لها: انكحي.
قال إبراهيم: لا بأس أن يهدي لها ويقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه.
وروى ابن عوف عن محمد عن عبيدة في هذه الآية قال: يقول لوليّها لا سبقني إليها. قال مجاهد قال رجل لامرأة في جنازة زوجها: لا تسبقيني بنفسك، فقالت: قد سُبقت، وروى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته، أن سكينة بنت حنظلة قالت: دخل عليّ أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدّتي فقال: يابنت حنظلة، أنا من قد علمت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدّي عليّ وقدمه في الإسلام، فقالت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: أو لقد فعلت إنما أُجرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة وتوفي عنها زوجها، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثّر الحصير في يده من شدة تحامله على يده فما كانت تلك خطبة.
وقال ابن يزيد في هذه الآية: كان أبي يقول: كلّ شيء كان دون أن يعزما عقدة النكاح فهو زنا، قال الله عزّ وجلّ { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ } والخطبة التماس النكاح، وهو مصدر قولك: خطب الرجل المرأة يخطبها خطبة وخطباً.
وقال قوم: هي مثال الجلسة والقعدة والركبة، ومعنى قولهم خطب فلان فلانة: سألها خطبة إلى ما في نفسها أي حاجاته وأمره من قولهم ما خطبك أي حاجتك وأمرك، قال الله
{ { فَمَا خَطْبُكَ يٰسَامِرِيُّ } [طه: 95] وقال الأخفش: الخطبة: الذكر، والخطبة المشهد، فيكون معناه: فيما عرّضتم به من تخطبون النساء عندهنّ { أَوْ أَكْنَنتُمْ } أسررتم وأضمرتم { فِيۤ أَنْفُسِكُمْ } في خطبتهنّ وزواجهنّ، يقال: كننت الشيء وأكننته لغتان، وقال ثعلب: أكننت الشيء خفيته في نفسي وكننته سترته، وقال السدي: هو أن يدخل فيساويهنّ إن شاء ولا يتكلم بشيء.
{ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } بقلوبكم، وقال الحسن: يعني الخطبة { وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ } بيوم، قال بعضهم: هو الزنا وكان الرجل يدخل على المرأة من أجل الريبة وهو يعرّض بالنكاح فيقول لها: دعيني فإذا وفيت عدّتك أظهرت نكاحك، فنهى الله تعالى عن ذلك، هذا قول الحسن وقتادة وإبراهيم وجابر بن زيد وابن أبي مجلز والضحّاك والربيع وعطاء، وهي رواية عطية عن ابن عباس، يدلّ عليه قول الأعشى:

ولا تقربنّ جارةً إنّ سرّها عليك حرام (وانكحن أو تأبّدا)

وقال الحطيئة:

ويحرم سرّ جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع

وقال مجاهد: هو قول الرجل للمرأة: لا تفوتيني نفسك، فإنّي أنكحك. الشعبي والسدي: لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره.
كرمة: لا يخطبها في العدة. سعيد بن جبير: لا يقايضها على كذا وكذا من المال على أن لا تتزوج غيره، وهذه التأويلات كلها متقاربة، والسرّ على هذه الأقوال النكاح، قال امرؤ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن السرّ أمثالي

قال الأعشى:

فلم يطلبوا سرّها للغنى ولم يسلموها لإزهادها

أي نكاحها، وقال الكلبي: لا تواعدوهنّ سرّاً أي لا تصفوا أنفسكم لهنّ بكثرة الجماع فيقول لها آتيك الأربعة والخمسة وأشباه ذلك، وعلى هذا القول السرّ هو الجماع نفسه، وقال الفرزدق:

موانع للأسرار إلاّ لأهلها ويخلفن ما ظنّ الغيورالمشفشف

يعني أنهنّ عفائف اليد عن الجماع إلاّ من أزواجهنّ. قال رؤبة:

فعفّ عن أسرارها بعد الغسق ولم يضعها بين فرك وعشق

يعني عفّ عن غشيانها بعد ما لزمته لذلك.
وقال زيد بن أسلم: لا تواعدوهنّ سرّاً أي لا تنكحوهنّ سرّاً، ثم يمسكها حتى إذا حلّت أظهرت ذلك، وأصل السرّ ما أخفيته في نفسك، وإنما قيل للنكاح والزنا والجماع السرّ لأنها تكون بين الرجل والمرأة في خفاء، ويقال أيضاً للفرج سرّ لأنّه لا يظهر، وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي:

لمّا رأت سرّي تغيّر وانحنى من دون (نهمة) سرّها حين انثنى

ثم استثنى فقال { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قيل عدة جميلة، وقال مجاهد: هو التعرض من غير أن يصرّح ويبوح، و(أنْ) في محل نصب بدلا من السرّ، وقال عبد الرحمن بن زيد: هذا كلّه منسوخ بقوله { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ } أي لا تصححوا عقدة النكاح، وقال ابن الزجاج: ولا تعزموا على عقدة النكاح، كما يقال: يضرب يد الطهر واليُمن وقال عنترة:

ولقد أبيت على الطوى وأظلّه حتى أنال به كريم المطعم

أي وأظل عليه.
{ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ } حتى تنقضي العدّة وإنما سماها كتاباً لأنها فرض من الله تعالى كقوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ }.
{ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ } فخافوا الله { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعجل بالعقوبة، تقول العرب: ضع الهودج على أحلم الجمال.
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } الآية،
" "نزلت في رجل من الأنصار تزوج بامرأة من بني حنيفة، ولم يسمّ لها مهراً، ثم طلّقها قبل أن يمسّها فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلمّا نزلت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم متّعها ولو بقلنسوتك" ، فذلك قوله { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } تجامعوهنّ.
قرأ حمزة والكسائي وخلف: تماسّوهنّ بالألف على المفاعلة لأنّ بدن كل واحد منهما يمسّ بدن صاحبه فيتماسّان جميعاً، دليله قوله
{ { مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [المجادلة: 4] وقرأ الباقون: تمسّوهنّ بغير ألف لأن الغشيان إنما هو من فعل الرجل، دليله قوله { { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [مريم: 20].
{ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } أي توجدوا لهنّ صداقاً، يقال فرض السلطان لفلان أي أثبت له صدقة في الديوان، فإنْ قيل: ما الوجه في نفي الجناح عن المطلق وهل على الرجل جناح لو طلّق بعد المسيس فيوضع عنه قبل المسيس؟ قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما بال أقوام يلعبون بحدود الله يقولون: طلّقتك، راجعتك؟" ، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تطلّقوا نساءكم إلاّ عن ريبة؛ فإنّ الله لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات" .
وقال عليه السلام: "أبغض الحلال عند الله الطلاق" ، وقال عليه السلام: "إنّ الله يبغض كل مطلاق مذواق" .
فلمّا قال رسول الله هذا ظنّوا أنهم يأثمون في ذلك فأخبر الله تعالى أنه لا جناح في تطليق النساء إذا كان على الوجه المندوب، فربّما كان الفراق أروح من الإمساك، وقيل: معنى قوله { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي لا سبيل عليكم للنساء إن طلّقتموهنّ ما لم تمسّوهنّ ولم تكونوا فرضتم لهنّ فريضة في أتباعكم بصداق ولا نفقة.
وقيل: معناه { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } في أي وقت شئتم لأنه لا سنّة في طلاقهنّ، فللرجل أن يطلّقهن إذا لم يكن مسّهنّ حائضاً أو طاهراً، وفي كل وقت أحبّ، وليس كذلك في المدخول بها لأنّه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء إلاّ العدة ظاهراً في طهر لم يجامعها فيه، فإن طلّقها حائضاً آيساً وقع الطلاق.
{ وَمَتِّعُوهُنَّ } أي زوّدوهنّ وأعطوهنّ من مالكم ما يتمتعن به، والمتعة والمتاع ما تبلغ به من الزاد { عَلَى ٱلْمُوسِعِ } أي الغني { قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ } الفقير { قَدَرُهُ } أي إمكانه وطاقته، قرأ أبو جعفر وحفص وحمزة والكسائي وخلف وابن ذكوان بفتح الدال فيهما، واختاره أبو عبيدة قال: لما فيهما من الفخامة، وقرأ الآخرون بجزم الدال فيهما واختاره أبو حاتم وهما لغتان، قال: نطق بهما القرآن فتصديق الفتح قوله:
{ { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [الرعد: 17] وتصديق الجزم قوله: { { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الزمر: 67] تقول العرب: القضاء والقدر، وقال أبو يزيد الأنصاري: القضاء والقدر بتسكين الدال، وقال الشاعر وهو الفرزدق:

وما صبّ رملي في حديد مجاشع مع القدر إلاّ حاجة لي أريدها

وقال بعضهم: القدْر المصدر والقدَر الاسم { مَتَاعاً } نصب على المصدر أي متعوهن متاعاً، ويجوز أن يكون نصباً على القطع لأنّ المتاع نكرة والقدر معرفة { بِٱلْمَعْرُوفِ } أي ما أمركم الله به من غير ظلم ولا مطل { حَقّاً } نصب على الحكاية تقديره: أخبركم حقاً، وقيل على القطع.
حكم الآية
قال المفسّرون: قيل: هذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمّي لها صداقاً فطلقها قبل أن يمسها فلها المتعة ولا فريضة لها بإجماع العلماء، واختلفوا في متعة المطلقة فيما عدا ذلك، فقال قوم: لكل مطلقة متعة كائنة من كانت وعلى أي وجه وقع الطلاق، فالمتعة واجبة تقضى لها في مال المطلّق كما تقضى عليه سائر الديون الواجبة عليه، سواء دخل بها أو لم يدخل، فرض لها أو لم يفرض إذا كان الطلاق من قبله، فأما إذا كان الفراق من قبلها فلا متعة لها ولا مهر، وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وأبي العالية ومحمد بن جرير، قال: لقوله تعالى: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } فأوجب المتعة لجميع المطلقات ولم يفرّق، ويكون معنى الآية على هذا القول: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة أو لم تفرضوا لهنّ فريضة، لأنّ كل منكوحة إنما هي احدى اثنتين: مُسمّى لها الصداق أو غير مسمّى لها فعلمنا بالذي نقلوا من قوله { أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } أن المعنيّة بقوله: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } المفروضات لهن { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } وغير المفروض لها إذ لا معنى لقول القائل: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ ما لم تفرضوا لهنّ فريضة } ثم قال: { وَمَتِّعُوهُنَّ } يعني الجميع.
وقال آخرون: المتعة واجبة لكل مطلّقة سوى المطلقة المفروض لها إذا طُلّقت قبل الدخول فإنه لا متعة لها وإنما لها نصف الصداق المسمّى، وهذا قول عبد الله بن عمر ونافع وعطاء ومجاهد ومذهب الشافعي، ويكون وجه الآية على هذا القول لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ ولم تفرضوا لهنّ فريضة، الألف زائدة كقوله { أَوْ يَزِيدُونَ } ونحوها، ثم أمر بالمتعة لهنّ.
ويجوز أن يكون قوله { وَمَتِّعُوهُنَّ } راجعاً إلى المطلقات غير المفروضات قبل المسيس دون المفروضات لهنّ، ويكون قوله في عقبه: وإن طلقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ مختصاً له، فجرى في أول الآية على ظاهر العموم في المفروضات وغير المفروضات، وفي قوله { وَمَتِّعُوهُنَّ } على التخصيص في غير المفروضات للآية التي بعدها.
وقال الزهري: متعتان يقضي بأحدهما السلطان ولا يقضي بالأخرى، بل يلزمه فيما بينه وبين الله، فأمّا التي يقضي بها السلطان فهو فيمن طلق قبل أن يفرض لها ويدخل بها فإنه يؤخذ بالمتعة وهو قوله: { حَقًّا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ }.
والمتعة التي تلزم فيما بينه وبين الله تعالى ولا يقضي به السلطان هي فيمن طلق بعدما يدخل بها ويفرض لها وهو قوله: { حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } وقال بعضهم: ليس شيء من ذلك بواجب، وإنما المتعة إحسان والأمر بها أمر ندب واستحباب لا أمر فرض وإيجاب، وهو قول أبي حنيفة، وروى ابن سيرين أنّ رجلا طلّق امرأة وقد دخل بها، فخاصمته إلى شريح في المتعة فقال شريح: لا تاب أن يكون من المحسنين ولا تاب أن يكون من المتقين ولم يجبره على ذلك.
واختلفوا في قدر المتعة ومبلغها، فقال ابن عباس والشعبي والزهري والربيع بن أنس: أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب: درع وخمار (وجلباب) وإزار، ودون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة، شيء من الورق، وهذا مذهب الشافعي قال: أعلاها خادم على الموسع، وأوسطها ثوب، وأقلّها أقلّ ماله ثمن. قال الحسن: ثلاثون درهماً، وكان شريح يمتّع بخمسمائة درهم، ومتّع عبد الرحمن بن عوف أم أبي سلمة حين طلّقها جاريةً سوداء، ومتّع الحسن بن علي (رضي الله عنه) امرأة له بعشرة آلاف درهم، فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق.
قال أبو حنيفة: متاعها إذا اختلف الزوج والمرأة فيها قدر نصف مهر مثلها ولا تجاوز ذلك، والصحيح أن الواجب من ذلك على قدر عسر الرجل ويسره كما قال تعالى، ولو كان المعتبر فيه المهر لكان يقول: ومتعوهنّ على قدرهنّ وقدر صداق مثلهنّ، فلمّا قال { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } دلّ على أنّ المعتبر فيه حال الرجل لا حال المرأة، وروى ابن أبي زائدة عن صبيح بن صالح قال: سئل عامر: بكم يمتّع الرجل امرأته؟ قال: على قدر ماله.
تفصيل حكم الآية
من تزوّج امرأة على غير مهر مسمّى فالنكاح جائز، فإن طلبت الفرض أمرناه أن يفرض لها، وإن لم يفرض لها ودخل بها فلها مهر مثلها، فإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة ولا مهر لها، وإن مات عنها بعد الدخول فلها مهر مثلها، وإن مات عنها قبل الدخول والتسمية ففيها قولان:
أحدهما: لها مهر مثلها، وهو مذهب أهل العراق، والدليل عليه حديث بروع بنت واسق الأشجعية حين توفي عنها زوجها ولم يفرض لها ولا دخل بها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهر (نسائها) لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث.
والقول الثاني: أنّ لها الميراث وعليها العدة ولا مهر لها، بل لها المتعة كما لو طلّقها قبل الدخول والتسمية، وهو قول علي، وكان يقول في حديث بروع: لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله وسنّة رسوله.
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } الآية هنا في الرجل يتزوج المرأة، وقد سمّى لها صداقاً، ثم يطلقها قبل أن يمسّها فلها نصف الصداق، وليس لها أكثر من ذلك، ولا عدة عليها، وإن لم يدخل بها حتى توفي فلا خلاف أنّ لها المهر كاملا والميراث، وعليها العدة، والمسّ ههنا الجماع.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خلا رجل بامرأة ولم يجامعها حتى فارقها فإنّ المهر الكامل يلزمه، والعدّة تلزمها لخبر ابن مسعود: قضى الخلفاء الراشدون فيمن أغلق باباً وأرخى ستراً أن لها المهر وعليها العدّة، وأما الشافعي فلا يلزم مهراً كاملا ولا عدّة إذ لم يكن دخول بظاهر القرآن.
قال شريح: لم أسمع الله تعالى ذكر في كتابه باباً ولا ستراً، إنما زعم أنه لم يمسّها فلها نصف الصداق، وهو مذهب ابن عباس.
وهذه الآية ناسخة الآية التي في سورة الأحزاب { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } [49] الآية، إلى قوله: { فَمَتِّعُوهُنَّ } قد كان لها المتاع، فلمّا نزلت هذه الآية نسخت ما كان قبلها وأوجبت للمطلقة المفروض لها قبل المسيس نصف مهرها المسمّى، ولا متاع لها كما قال عزّ من قائل: { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } تجامعوهنّ.
{ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } أوجبتم لهنّ صداقاً، وسمّيتم لهنّ مهراً، وأصل الفرض القطع، ومنه قيل لحزّ الميزان والقوس: فرضة، وللنصيب فريضة لأنّه قطعه من الشيء { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } أي نصف المهر المستحق، وقرأ السلمي فنُصف بضم النون حيث وقع، وهما لغتان.
ثم قال { إِلاَّ أَن يَعْفُونَ } يعني النساء، ومحل يعفون نصب بأن إلاّ أنّ جمع المؤنث في الفعل المضارع يستوي في الرفع والنصب والجزم، يكون في كل حال بالنون تقول: هنّ يضربن، ولن يضربن، ولم يضربن لأنها لو سقطت النون لاشتبه بالمذكر.
{ أَوْ يَعْفُوَاْ } قرأ الحسن ساكنة الواو كأنه استثقل الفتحة في الواو كما استثقلت الضمّة فيها { ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ } اختلف العلماء فيه، فقال بعضهم: هو الولي، ومعنى الآية إلاّ أن يعفون أي يهبن ويتركن النصف فلا يطالبن الأزواج إذا كنّ ثيّبات بالغات رشيدات جائزات الأمر، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو وليها، فيترك ذلك النصف إذا كانت بكراً أو غير جائزة الأمر، ويجوز عفوه عليها وإن كرهت، فإن عفت المرأة وأبى الولي فالعفو جائز، فإن عفى الولي وأبت المرأة فالعفو جائز بعد أن لا تريد ضراراً، وهذا قول (علي) وأصحاب عبد الله وإبراهيم وعطاء والحسن والزهري والسدي وأبو صالح وأبي زيد وربيعة الرأي، ورواية العوفي عن ابن الحسن.
وروى معمر عن ابن طاووس عن أبيه وعن إسماعيل بن شرواس قالا: الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وقال عكرمة: أذن الله تعالى هو في العفو ورضي به وأمر به، فأيّ امرأة عفت جاز عفوها وانْ شحّت وضنّت عفا وليها وجاز عفوه، وهذا مذهب فقهاء الحجاز إلاّ أنهم قالوا: يجوز عفو ولي البكر فإذا كانت ثيّباً فلا يجوز عفوه عليها.
وقال بعضهم: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، ومعنى الآية: إلاّ أن تعفو النساء فلا يأخذن شيئاً من المهر، أويعفو الزوج فيعطيها الصداق كاملا، وهذا قول علي وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد ومحمد بن كعب القرضي ونافع والربيع وقتادة وابن حبّان والضحّاك ورواية عمار بن أبي عمار عن ابن عباس، وهو مذهب (أهل) العراق لا يرون سبيلا للولي على شيء من صداقها إلاّ بإذنها، ثيّباً كانت أو بكراً، قالوا: لإجماع الجميع من أنّ ولي المرأة لو أبرأ زوجها من مهرها قبل الطلاق أنه لا يجوز ذلك، فكذلك إبراؤه وعفوه بعد الطلاق لا يجوز، ولإجماعهم أيضاً على أنه لو وهب وليّها من مالها لزوجها درهماً بعد البينونة أثم ما لم يكن له ذلك، وكانت تلك الهبة باطلة والمهر مال من أموالها، فوجب أن يكون الحكم كحكم بإبراء، مالها ولإجماعهم أنّ من الأولياء من لا يجوز عفوه عليها بالإجماع، وهم بنو الأخوة وبنو الأعمام وما يفرق الله (بعض) في الآية.
عن عيسى بن عاصم قال: سمعت شريحاً يحدّث قال: سألني علي عن الذي بيده عقدة النكاح، فقلت: ولي المرأة، فقال: لا، بل الزوج، وروي أن رجلا زوّج اخته وطلقها زوجها قبل أن يدخل بها؛ فعفا أخوها عن المهر فأجازه شريح، ثم قال: أنا أعفو عن نساء بني مرّة فقال عامر: لا والله ما قضى شريح قضاء أردأ ولا هو أحمق فيه منه أن يجيز عفو الأخ، قال: رجع بعدُ شريح عن قوله، وقال: هو الزوج.
وعن القاسم قال: كان أشياخ الكوفة ليأتون شريحاً فيخاصمونه في قوله { ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ } حتى يجثو على ركبتيه فيقول شريح: إنه الزوج، إنه الزوج.
روى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قالوا: هو الزوج، وقال طاووس ومجاهد: هو الولي فكلّمتهما في ذلك فرجعا عن قولهما وتابعا سعيد وقالا: هو الزوج، وروى محمد بن شعيب مرسلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الذي بيده عقدة النكاح الزوج، يعفو فيعطي الصداق كاملا" .
وعن صالح بن كيسان أن جبير بن مطعم تزوّج امرأة ثم طلّقها قبل أن يبني بها فأكمل لها الصداق وقال: أنا أحقّ بالعفو وتأوّل قوله: { أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ } فيكون وجه الآية على هذا التأويل { ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده، فلمّا أدخل الألف واللام حذف الهاء كقوله { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى } يعني مأواه، وقال النابغة:

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الناس فالأحلام غير عوازب

يعني وأحلامهم فكذلك قوله { عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ } بمعنى عقدة نكاحه { وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } قال سيبويه موضعه رفع بالإبتداء أي والعفو أقرب للتقوى وألزم، بمعنى إلى أي، إلى التقوى: والخطاب ههنا للرجال والنساء، لأنّ المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب المذكر، ومعناه وعفوكم عن بعض أقرب إلى التقوى لأنّ هذا العفو ندب وإذا سارع إليه وأتى به كان معلوماً أنه لما كان فرضاً أشد استعمالا ولمّا نهى عنه أشد تجنباً وقرأ الشعبي: وأن يعفو بالياء جعله خبراً عن الذي بيده عقدة النكاح.
{ وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } قرأ علي بن أبي طالب وأبو داود والنخعي (وَلاَ تَناسَوُاْ ٱلْفَضْلَ) من المفاعلة بين اثنين كقوله:
{ { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } [الحجرات: 11] وقرأ يحيى بن يعمر { وَلاَ تَنسَوِاْ ٱلْفَضْلَ } بكسر الواو، وقرأ الباقون { وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ } بضم الواو، ومعنى الفضل إتمام الرجل الصداق أو ترك المرأة النصف، حثّ الله تعالى الزوج والمرأة على الفضل والإحسان وأمرهما جميعاً أن يسبقا إلى العفو.
{ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.