التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٦٣
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٤
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٦٧
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ
٦٨
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ
٦٩
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
٧٠
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٧٢
فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٧٣
-البقرة

الكشف والبيان

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } يا معشر اليهود. { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ } وهو الجبل بالسريانية في قول بعضهم. وقالوا: ليس من لغة في الدنيا إلاّ وهي في القرآن.
وقال أبو عبيدة والحُذّاق من العلماء: لا يجوز أن تكون في القرآن لغة غير لغة العرب؛ لأن الله تعالى قال:
{ { قُرْآناً عَرَبِيّاً } [يوسف: 2]، [طه: 113]، [الزمر: 28]، [فُصّلت: 3]، [الشورى: 7]، [الزخرف: 3] وقال: { { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [الشعراء: 195] وإنّما هذا وأشباهه وفاق بين اللّغتين.
وقد وجدنا الطّور في كلام العرب، وقال جرير:

فإن ير سليمان الجنّ يستأنسوا بها وإن ير سليمان أحب الطّور ينزل

وقال المفسّرون: وذلك أنّ الله تعالى أنزل التوراة على موسى وأمر قومه بالعمل بأحكامه فأبوا أن يقبلوها ويعملوا بما فيها للأضرار والأثقال الّتي فيها، وكانت شريعته ثقيلة فأمر الله تعالى جبرئيل عليه السلام يضع جبلاً على قدر عسكره وكان فرسخاً في فرسخ ورفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرّجل.
أبو صالح عن ابن عبّاس: أمر الله تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتّى قام على رؤوسهم مثل الظلّة.
عطاء عن ابن عبّاس: رفع الله فوق رؤوسهم الطّور وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر الملح من خلفهم وقيل لهم: { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم } أي أعطيناكم.
{ بِقُوَّةٍ } بجدّ ومواظبة. وفيه إضمار، أي: وقلنا لهم: خذوا.
{ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } أي احفظوه واعلموه واعملوا به و (في) حرف أولي فاذّكروا بذال مشددة وكسر الالف المشددة و (في) حرف وانه وتذكروا ما فيه ومعناهما اتعظوا به { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لكي تنجوا من الهلاك في الدّنيا والعذاب في العقبى فإن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به وإلاّ رضختكم بهذا الجبل وأغرقتكم في البحر وأحرقتكم بهذه النّار، فلمّا رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا لك وسجدوا خوفاً وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فصارت سنّة في اليهود لا يسجدون إلاّ على أنصاف وجوههم فلمّا زال الجبل قالوا: يا موسى سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعناك.
{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } أعرضتم وعصيتم.
{ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } أي من بعد أخذ الميثاق ورفع الجبل.
{ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بتأخير العذاب عنكم.
{ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } لصرتم من المغلوبين بالعقوبة وذهاب الدّنيا والآخرة.
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ } وذلك أنهم كانوا من داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة حرّم الله عليهم صيد السمّك يوم السبت فكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلاّ اجتمع هناك حتّى يخرجن خراطيمهنّ من الماء لأمنها، فإذا مضى السبت تفرّقن ولزمن البحر فذلك قوله تعالى:
{ { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } [الأعراف: 163] فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كانت عشيّة الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تطيق الخروج لبعد عمقها وقلّة الماء فإذا كان يوم الأحد أخذوها، وقيل: كانوا ينصبون الحبائل والشّصوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد، ففعلوا ذلك زماناً فكثرت أموالهم ولم تنزل عليهم عقوبة، فقست قلوبهم وأصرّوا على الذّنب، وقالوا: ما نرى السّبت إلاّ قد أحلّ لنا، فلمّا فعلوا ذلك صار أهل القرية ـ وكانوا سبعين ألفاً ـ ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الّذين نهوا إثنا عشر ألفاً فلمّا أبى المجرمون قبول نصحهم قال الناهون: والله لا نُساكِنكم في قرية واحدة، فقسّموا القرية بجدار وغيروا بذلك سنتين فلعنهم داود وغضب الله عزّ وجلّ عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم والمجرمون لم يفتحوا أبوابهم ولا خرج منهم أحد فلمّا أبطأوا تسوّروا عليهم الحائط فإذا هم جميعاً قردة فمكثوا ثلاثة أيام ثمّ هلكوا، ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيّام ولم يتوالدوا فذلك قوله عزّ وجلّ { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً } أمر تحويل.
{ خَاسِئِينَ } مطرودين صاغرين بلغة كنانة، قاله مجاهد وقتادة والربيع.
قال أبو روق: يعني خرساً لا يتكلّمون، دليله قوله عزّ وجلّ
{ { قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108].
وقيل: مبعدون من كلّ خير.
{ فَجَعَلْنَاهَا } أي القردة، وقيل: القرية، وقيل: العقوبة.
{ نَكَالاً } عقوبة وعبرة وفضيحة شاهرة، وأصله من النكل وهو القيد، وجمعه أنكال، ويقال للّجام نكل.
{ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } قال أبو العالية والرّبيع: معناه عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لما بعدهم.
قتادة: جعلنا تلك العقوبة جزاءً لما تقدّم من ذنوبهم قبل نهيهم عن الصّيد وما خلفها من العصيان بأخذ الحيتان بعد النّهي.
وقيل: لما بين يديها من عقوبة الآخرة وما خلفها من نصيحتهم في دنياهم فيذكّرون بها إلى يوم قيام السّاعة.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير؛ وتقديرها: فجعلناها وما خلفها ممّا أعدّ لهم من العذاب في الآخرة نكالاً وجزاءاً لما بين يديها: أي لما تقدّم من ذنوبهم في اعتدائهم يوم السّبت.
{ وَمَوْعِظَةً } عظة وعبرة. { لِّلْمُتَّقِينَ } للمؤمنين من أُمّة محمّد صلى الله عليه وسلم فلا يفعلون مثل فعلهم.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } الآية: وذلك إنّه وجد قتيل في بني إسرائيل إسمه عاميل ولم يدروا قاتله واختلفوا في قاتله والسبب في قتله فقال عطاء والسّدي: كان في بني اسرائيل رجل كثير المال وله ابن عم مسكين لا وارث له غيره فلمّا طال عليه موته قتله ليرثه.
وقال بعضهم: وكان تحت عاميل بنت عم له لم يكن لها مثلاً في بني إسرائيل بالحسن والجمال فقتله ابن عمّه لينكحها.
وقال ابن الكلبي: قتله ابن أخيه لينكح إبنته فلمّا قتله حمله من قريته إلى قرية أخرى وألقاه هناك.
وقيل: ألقاه بين قريتين.
عكرمة: كان لبني إسرائيل مسجد له إثنا عشر باباً لكلّ سبط منهم باب فوجد قتيل على باب سبط.
قيل: وجرّ إلى باب سبط آخر فاختصم فيه السبطان.
وقال ابن سيرين: قتله القاتل ثمّ إحتمله فوضعه على باب رجل منهم ثمّ أصبح يطلب بثأره ودمه ويدّعيه عليه. قال: فجاء أولياء القتيل إلى موسى وأتوه بناس وادّعوا عليهم القتل وسألوا القصاص فسألهم موسى عن ذلك فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى ووقع بينهم خلاف.
وقال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعوا الله ليبيّن لهم ذلك فسأل موسى ربّه فأمرهم بذبح بقرة. فقال لهم موسى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً }.
{ قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } يا موسى أي أتستهزيء بنا حين نسألك عن القتيل وتأمرنا بذبح البقرة وإنّما قالوا ذلك لتباعد الأمرين في الظّاهر، ولم يدروا ما الحكمة فيه.
وقرأ ابن محيصن: أيّتخذنا بالياء قال: يعنون الله ولا يستبعد هذا من جهلهم لأنّهم الّذين قالوا
{ { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف: 138].
وفي هذا ثلاثة لغات هزواً: بالتخفيف والهمز ومثله كُفواً وهي قراءة الأعمش وحمزة وخلف وإسماعيل.
وهزواً وكفواً مثقلان مهموزان وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز والشام واختيار الكسائي وأبي عبيد وأبي حاتم.
وهزواً وكفواً مثيلان بغير همزة وفي رواية حفص بن سليمان البزّاز عن عاصم وكلّها لغات صحيحة معناها الاستهزاء فقال لهم موسى عليه السلام: { قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } أي من المستهزئين بالمؤمنين فلمّا علم القوم إنّ ذبح البقرة عزم من الله عزّ وجلّ سألوه الوصف.
{ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } ولو أنّهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وإنّما كان تشديدهم تقديراً من الله عزّ وجلّ وحكمة، وكان السبب في ذلك على ما ذكره السّدي وغيره.
إنّ رجلاً في بني إسرائيل كان بارّاً بأبيه وبلغ من برّه به إنّ رجلاً أتاه بلؤلؤة فأبتاعها بخمسين ألفاً وكان فيها فضل فقال للبائع أبي نائم ومفتاح الصندوق تحت رأسه فأمهلني حتّى يستيقظ وأعطيك الثمن. قال: فأيقظ أباك واعطني المال. قال: ما كنت لأفعل ولكن أزيدك عشرة آلأف فانتظرني حتّى ينتبه أبي.
فقال الرّجل: فأنا أعط عنك عشرة آلاف إنْ أيقظت أباك وعجلت النقد. قال: وأنا أزيدك عشرين ألفاً إنْ انتظرت إنتباه أبي. ففعل ولم يوقظ الرجل أباه فأعقبه برّه بأبيه أن جعل تلك البقرة عنده وأمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها.
قال ابن عبّاس ووهب وغيرهما: كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وكان له عجل فأتى بالعجل الى غيضة وقال: اللّهمّ إنّي استودعك هذه العجلة لابني حتّى يكبر ومات الرّجل فسبيت العجلة في الغيضة وصارت عواناً وكانت تهرب من كل مَن رامها. فلمّا كبر الابن كان بارّاً بوالدته وكان اللّيلة يقسّم ثلاثة أثلاث: يصلّي ثلثاً وينام ثلثاً ويجلس عند رأس أمّه ثلثاً فاذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره ويأتي به السّوق فيبيعه بما شاء الله ثّم يتصدّق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثاً، وقالت له أمّه يوماً: إنّ أباك ورّثك عجلة وذهب بها إلى غيضه كذا استودعها الله عز وجل فانطلق اليها فأدعُ اله ابراهيم واسماعيل وإسحاق بأن يردّها عليك، وان من علامتها إنّك إذا نظرت إليها يخيّل إليك إنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها وكانت تسمى المذهّبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى وقال: أعزم عليك بآله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فأقبلت تسعى حتّى قامت بين يديه فقبض على عنقها وقادها فتكلمت البقرة بأذن الله وقالت: أيّها الفتى البارّ بوالدته إركبني فأنّ ذلك أهون عليك. فقال الفتى، إنّ أُمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت: خذها بعنقها فقالت البقرة: بأله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليَّ أبداً فأنطلق فأنّك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرّك بوالدتك. وسار الفتى فاستقبله عدوّ الله إبليس في صورة راع فقال: أيّها الفتى إنّي رجل من رعاة البقر إشتقت إلى أهلي فأخذت ثوراً من ثيراني فحملت عليه زادي ومتاعي حتّى إذا بلغت شطر الطّريق ذهبت لأقضي حاجتي صعداً وسط الجبل وما قدرت عليه وإنّي أخشى على نفسي الهلاك، فأن رأيت أن تحملني على بقرتك وتنجني من الموت واعطيك أجرها بقرتين مثل بقرتك فلم يفعل الفتى وقال: إذهب فتوكّل على الله فلو علم الله منك اليقين بلغك بلا زاد ولا راحلة فقال إبليس: فأن شئت فبعنيها بحكمك، وإن شئت فاحملني عليها وأعطيك عشرة مثلها فقال الفتى: إنّ امّي لم تأمرني بهذا فبينا الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يدي البقرة ونفرت البقرة هاربة في الفلاة وغاب الرّاعي فدعاها الفتى بأسم آله إبراهيم فرجعت إليه البقرة فقالت أيّها الفتى البار بوالدته ألم تر إلى الطائر الذي طار إنّه إبليس عدو الله إختلسني أمّا إنّه لو ركبني لما قدرت عليَّ أبداً فلمّا دعوت آله إبراهيم جاء ملك فانتزعني من يد إبليس وردّني إليك لبرّك بوالدتك وطاعتك لها.
فجاء بها الفتى إلى أمّه، فقالت له: إنّك فقير لا مال لك ويشقّ عليك الاحتطاب بالنّهار والقيام باللّيل فانطلق فبع هذه البقرة وخذ ثمنها. قال بكم أبيعها؟
قالت: بثلاثة دنانير ولا تبعها بغير رضاي ومشورتي وكانت ثمن البقرة في ذلك الوقت فانطلق بها الفتى إلى السّوق فبعث الله ملكاً إنساناً خلقه بقدرته ليخبر الفتى كيف برّه بوالدته وكان الله به خبيراً فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟
قال: بثلاثة دنانير واشترط عليك رضا والدتي. فقال الملك: ستّة دنانير ولا تستأمر أمّك. فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلاّ برضا أمّي فردّها إلى امّه وأخبرها بالثّمن فقالت: ارجع فبعها ستّة على رضاي فإنطلق الفتى بالبقرة إلى السوق وأتى الملك وقال: استأمرت والدتك؟
فقال الفتى: انّها أمرتني أن لا أنقصها من ستة على أن أستأمرها. قال الملك: فأنني أعطيك إثني عشر على أن لا تستأمرها.
فأتى الفتى ورجع إلى أمّه واخبرها بذلك قالت: إنّ ذلك الرجل الّذي يأتيك ويعطيك هو ملك من الملائكة يأتيك في صورة آدمي ليجرّبك فإذا أتاك فقل له أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟
ففعل ذلك فقال له الملك: إذهب إلى أمّك وقل لها بكم هذه البقرة؟ فأنّ موسى بن عمران يشتريها منكم لقتيل يقتل من بني إسرائيل فلا تبيعوها إلاّ بملء مسكها دنانير فأمسكوا البقرة، وقدر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها وأمرهم بها فقالوا يستوصفون ويصف لهم حتّى وصف تلك البقرة بعينها موافاة له على برّه بوالدته فضلاً منه.
فضلاً منه ورحمة وذلك قوله عزّ وجلّ { ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } أيّ سل وهكذا هو في مصحف عبد الله، سلّ لنّا ربّك يبين لنا ماهي؟ وما سنّها؟
قال موسى: إنّه يُعني إن الله يقول: { إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ } لا كبيرة ولا صغيرة وارتفع البكر والفارض بأضمار هي إذ لا هي فارض ولا هي بكر.
مجاهد وأبو عبيدة والأخفش: الفارض الكبيرة المسنّة التي لا تلد يقال له: فرضت ـ تفرض ـ فروضاً.
قال الشاعر:

كميت بهيم اللون ليس بفارضولا بعوان ذات لون مخصف

وقال الرّاجز:

يا رُبَّ ذي ضغن عليّ فارضله قروء كقروء الحائض

أيّ حقد قديم، والبكر: الفتية الصغيرة التي لم تلد قط.
وقال السّدي: البكر: التي لم تلد إلاّ ولداً واحداً وحذف الحاء منها للأختصاص.
{ عَوَانٌ } نصف بين سنيّن، وقال الأخفش: العوان التي نتجت مراراً وجمعه عون، ويُقال منه: عونت تعويناً.
{ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } من ذبح البقرة ولا تكرّروا السؤال.
{ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا } محل (ما) رفع بالأبتداء و { لَوْنُهَا } خبر، وقرأ الضّحاك { لونها } نصباً كانّه عمل فيه لسببين وجعل ما صلة.
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا }.
قال ابن عبّاس: شديد الصفرة وقال عدي بن زيد:

واني لأسقي الشرب صفراً فاقعاًكأن ذكيّ المسك فيها يعبّق

قتادة وأبو العالية والربيع: صاف.
سعيد بن جبير: صفراء اللون والظلف.
الحسن: السوداء، والعرب تسمي الأسود أصفر. قال الأعشى:

تلك خيلي منه وتلك ركابيهن صفر أولادها كالزبيب

قال القتيبي: غلط من قال الصفراء هاهنا السوداء؛ لأنّ هذا غلط في نعوت البقر.
وإنّما هو في نعوت الإبل؛ وذلك أنّ السّوداء من الإبل شربت سوادها صفرة، والآخر إنّه لو اراد السّوداء لما أكده بالفقوع لأنّ الفاقع المبالغ في الصّفرة. كما يُقال: أبيض يفق وأسود حالك وأحمر قاني وأخضر ناضر.
{ تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ } إليها وتعجبهم من حسنها وصفاء لونها؛ لأنّ العين تُسر وتولع بالنظر إلى الشيء.
الحسن قال: من لبس نعلاً صفراء قلّ همّه لأنّ الله يقول: صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } أسائمة أم عاملة.
{ إِنَّ ٱلبَقَرَ } هذه قراءة العامة، قرأ محمد ذو الشامة الأموي إن الباقر وهو جمع البقر كالجامل لجماعة الجمل وقال الشاعر:

مالي رأيتك بعد عهدك موحشاًخلقاً كحوض الباقر المتهدّم

قال قطرب: تجمع البقرة بقر، وباقر، وبقير، وبقور، وباقور. فأن قيل: لما قال تشابه والبقر جمع فلم لم يقل تشابهت؟ قيل فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: إنّه ذكر لتذكير بلفظ البقر، كقوله
{ { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [القمر: 20].
وقال المبرّد: سُئل سيبويه عن هذه الآية؟
[فقال: ] كل جمع حروفه أقل من حروف واحد فإنّ العرب تُذكّره، واحتج بقول الأعشى:

ودّع هريرة إن الرّكب مرتحل

ولم يقل مرتحلون، وقال الزّجاج: معناه إنّ جنس البقر تشابه علينا.
{ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } وفي تشابه سبع قراءات:
تشابه: بفتح التاء والهاء وتخفيف الشّين وهي قراءة العامة وهو فعل ماض ويذكر موحد.
وقرأ الحسن: تشابه: بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشّين اراد تَشابهُ.
وقرأ الأعرج: تشابه: بفتح التاء وتشديد الشّين وضم الهاء على معنى يتشابه.
وقرأ مجاهد: تشبّه، كقراءة الأعرج إلاّ إنّه بغير ألف لقولهم: تحمل وتحامل.
وفي مصحف أُبي: تشابهت على وزن تفاعلت [فالتاء] لتأنيث البقر.
وقرأ ابن أبي إسحاق: تشابهت بتشديد الشين قال أبو حاتم: هذا غلط لأن التاء لا تدغم في هذا الباب إلاّ في المضارعة.
وقرأ الأعمش: متشابه علينا جعله أسماً.
ومعنى الآية: إلتبس واشتبه أمره علينا فلا نهتدي إليه.
{ وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } إلى وصفها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وأيم الله لئن لم يستبينوا لما تبينت لهم آخر الأبد" .
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } مذلّلة بالعمل ـ يُقال: رجل ذليل بيّن الذّل، ودابة ذلولة بيّنة الذّل.
{ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ } أي مثلها للزراعة.
{ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ } بريئة من العيوب، وقال الحسن: مسلّمة القوائم ليس فيها أثر العمل.
{ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } قال عطاء: لا عيب فيها.
قال قتادة: لا بياض فيها أصلاً.
مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد.
محمّد بن كعب: لا لون فيها يخالف معظم لونها. فلما قال هذا { قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ } أي بالوصف التام البين.
قيل: كانت البقرة التي أحيا بها القتيل لوارثه الذي قتله، وكان أوّل من فتح السؤال عنها رجاء أن لا يجدوها فطلبوها فلم يجدوا بكمال وصفها إلاّ عند الفتى البار. فاشتروها منه بملء مسكنها ذهباً.
وقال السدّي: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهباً.
{ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } من غلاء ثمنها.
وقال محمّد بن كعب: وما كادوا يجدونها بإجتماع أوصافها.
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } يعني عاميل، وهذه الآية أوّل القصّة.
{ فَٱدَّارَأْتُمْ } فاختلفتم { فِيهَا } قاله ابن عبّاس ومجاهد ومنه قول القائل في رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يُزكي فكان خير شريك لا يداري ولا يُماري.
قال الضّحاك: اختصمتم.
عبد العزيز بن يحيى: شككتم.
الربيع بن أنس: تدافعتم، وأصل الدراء: الدفع يعني ألقى ذلك على هذا وهذا على ذاك؛ فدافع كل واحد عن نفسه كقوله تعالى
{ { وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ } [الرعد: 22]، وقوله { { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ } [النور: 8]، وأصل قوله [.........] والباء صلة.
أبو عبيدة: احتملوا وأقروا به، ومنه الدُّعاء المأثور [.........] وأصل: فادارأتم فتدارأتم فأُدغمت التاء في الدّال وادخلت الألف ليسلم سكون الحرف الأولي بمثل قوله
{ { ٱثَّاقَلْتُمْ } [التوبة: 38].
{ وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } تخفون.
{ فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ } يعني القتيل.
{ بِبَعْضِهَا } أي ببعض البقرة: فاختلفوا في هذا البعض ما هو؟
فقال ابن عبّاس: اضربوه بالعظم الذي يلي الفخذين وهو المقتل.
الضحّاك: بلسانها. قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقاويل لأنّ المراد كان من احياء القتيل كلامه واللسان آلته.
سعيد بن جبير: ضربت بذنبها. قال يمان: وهو أولى التأويلات بالصواب لأنّ العصعص أساس البدن الذي ركب عليه الخلق وأنّه أوّل ما يخلق وآخر ما يُبلى.
مجاهد: بذنبها.
عكرمة والكلبي: بفخذها الأيمن.
السّدي: بالبضعة التي بين كتفيها، وقيل: باذنها.
ففعلوا ذلك فقام القتيل حيّاً بإذن الله وأوداجها تشخب دماً وقال: قتلني فلان. ثمّ سقط ومات مكانه، وفي الآية اختصار، وتقديرها: فقلنا اضربوه ببعضها فضرب فحيي كقوله تعالى { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة: 185] يعني فافطر فعدة، وقوله { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } [البقرة: 196] أي فحلق ففدية.
{ كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ } كما أحيا عاميل بعد موته كذلك يُحيي الله الموتى.
{ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } دلائل آياته. { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وقال الواقدي: كل شيء في القرآن فهو بمعنى لكي غير التي في الشعراء:
{ { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [الشعراء: 129] فإنه بمعنى: كأنّكم تخلدون فلا تموتون.