التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ
٨٧
وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ
٨٨
وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٨٩
بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٩٠
-البقرة

الكشف والبيان

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا } أعطينا.
{ مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ } التوراة جملة واحدة.
{ وَقَفَّيْنَا } أردفنا واتبعنا.
{ مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ } رسولاً بعد رسول. يُقال: مضى أثرهُ وقفا غيره؛ في التعدية وهو مأخوذ من قفا الإنسان قال الله
{ { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء: 36]، وقال أُمية بن الصّلت:

قالت لأخت له قُصيه عن جنبوكيف تقفو ولا سهل ولا جدد

{ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ } العلامات الواضحات والدلالات اللايحات وهي التي ذكرها الله عزّ وجلّ في سورة آل عمران والمائدة.
{ وَأَيَّدْنَاهُ } قويناه وأعناه من الآد والأيد، مجاهد: أيدناه بالمد وهما لغتان مثل كرّم وأكرم.
{ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } خفف ابن كثير القدس في كل القرآن، وثقله الآخرون، وهما لغتان مثل الرّعب والسّحت ونحوهما، واختلفوا في روح القدس فقال الربيع وعكرمة: هو الرّوح الذي نفخ فيه إضافة إلى نفسه؛ تكريماً وتخصيصاً نحو بيت الله، وناقة الله وعبد الله، والقدس: هو الله عزّ وجلّ يدلّ عليه قوله تعالى
{ { وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء: 171] وقوله { { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [التحريم: 12].
والآخرون: أرادوا بالقدس الطهارة يعني الرّوح الطاهر سمّى روحه قدساً؛ لأنّه لم يتضمنه أصلاب الفحولة ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث إنّما كان أمراً من الله تعالى.
السّدي والضّحاك وقتادة وكعب: الروح القدس: جبرئيل قال الحسن: القدس: هو الله وروحه جبرئيل.
السّدي: القدس: البركة وقد عظّم الله بركة جبرئيل إذ أنزل الله عامة وحيه إلى أنبيائه على لسانه وتأييد عيسى عليه السلام بجبرئيل هو إنّه كان قرينه يسير معه حيثما شاء والآخر إنّه صعد به إلى السّماء، ودليل هذا التأويل قوله تعالى
{ { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ } [النحل: 102].
وقال ابن عبّاس وسعيد بن جبير وعبيد بن عمير: هو اسم الله الأعظم وبه كان يُحيي الموتى ويُري النّاس تلك العجائب.
وقال ابن زيد: هو الأنجيل جُعل له روحاً كما جعل القرآن لمحمّد صلى الله عليه وسلم روحاً، يدلّ عليه قوله تعالى
{ { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52] فلمّا سمعت اليهود بذكر عيسى عليه السلام قالوا: يا محمّد لا مثل عيسى كما زعمت ولا كما يقصّ علينا من الأنبياء(عليهم السلام) قالوا: فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقاً.
فأنزل الله عزّ وجلّ { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ } يا معشر اليهود { رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ } لا تحب ولا توافق.
{ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ } تكبّرتم وتعظمتم عن الأيمان به.
{ فَفَرِيقاً } طائفة سُميّت بذلك لأنّها فرقت من الحملة.
{ كَذَّبْتُمْ } عيسى ومحمّداً.
{ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } أيّ قتلتم زكريا ويحيى وسائر من قُتلوا من الأنبياء.
{ وَقَالُواْ } يعني اليهود { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قرأ ابن محيصن بضم اللام، وقرأ الباقون بجزمه. فمن خففه فهو جمع الأغلف مثل أصفر وصُفر وأحمر وحُمر وهو الذي عليه غطاء وغشاء بمنزلة الأغلف غير المختون فالأغلف والأعلف واحد ومعناه عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمّد.
قاله مجاهد وقتادة نظيره قوله عزّ وجلّ
{ { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [فصّلت: 5]، ومن ثقّل فهو جمع غلاف مثل حجاب وحجب وكتاب وكتب، ومعناه: قلوبنا أوعية لكلّ علم فلا نحتاج إلى علمك وكتابك. قالهُ عطاء وابن عبّاس.
وقال الكلبي: يريدون أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثاً إلاّ وعته إلاّ حديثك لا تفقهه ولا تعيه ولو كان فيه خيراً لفهمته ووعته.
قال الله عزّ وجلّ { بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } وأصل اللعن الطرد والأبعاد تقول العرب [نماء] ولعين أي بُعد. قال الشّماخ:

ذعرت به القطا ونفيت عنهمقام الذنب كالرّجل اللعين

فمعنى قوله: لعنهم الله طردّهم وأبعدهم من كل خير، وقال النضر بن شميل: الملعون المخزي المهلك.
{ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } معناه لا يؤمن منهم إلاّ قليلاً؛ لأنّ من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود، قاله قتادة، وعلى هذا القول ما: صلة معناه فقليلاً يؤمنون، ونصب قليلاً على الحال.
وقال معمر: معناه لا يؤمنون إلاّ بقليل بما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وعلى هذا القول يكون { قَلِيلا } منصوباً بنزع حرف الصّفة وما صلة أيّ فبقليل يؤمنون.
وقال الواقدي وغيره: معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً، وهذا كقول الرّجل لأخر: ما قل ما تفعل وكذا يريد لا تفعله البتة.
وروى الفراء عن الكسائي: مررنا بأرض قلَّ ما ينبت الكراث والبصل يريدون لا ينبت شيئاً.
{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } يعني القرآن.
{ مُصَدِّقٌ } موافق { لِّمَا مَعَهُمْ } وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة مصدقاً بالنّصب على الحال.
{ وَكَانُواْ } يعني اليهود { مِن قَبْلُ } أي من قبل بعث محمّد صلى الله عليه وسلم { يَسْتَفْتِحُونَ } يستنصرون، قال الله تعالى
{ { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ } [الأنفال: 19] أيّ أن تستنصروا فقد جاءكم النّصر.
وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
"[أنه] كان يستفتح القتال بصعاليك المهاجرين" .
{ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } مشركي العرب وذلك إنّهم كانوا يقولون إذا حزم أمر ودهمهم عدو: "اللّهمّ انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة"، وكانوا يقولون زماناً لاعدائهم من المشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما قُلنا، ونقتلكم معه قبل عاد وأرم.
{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ } يعني محمّداً صلى الله عليه وسلم من غير بني إسرائيل، وعرفوا نعته وصفته.
{ كَفَرُواْ بِهِ } بغياً وحسداً.
{ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } بئس ونعم فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم لا يتصرفان تصرف الافعال ومعنى الآية: بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالأيمان.
وقيل: معناه بئس ما باعوا به حظ أنفسهم.
{ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ } يعني القرآن.
{ بَغْياً } بالبغي وأصل البغي الفساد. يُقال: بغى الجرح إذا أمد وضمد.
{ أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } النبوة والكتاب.
{ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } محمّد صلى الله عليه وسلم.
{ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ } أي مع غضب.
قال ابن عبّاس: الغضب الأوّل بتضييعهم التوراة، والغضب الثاني بكفرهم بهذا النبيّ الذي اتخذه الله تعالى.
فيهم قتادة وأبو العالية: الغضب الأوّل بكفرهم بعيسى عليه السلام والأنجيل والثاني: كفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
السّدي: الغضب الأوّل بعبادتهم العجل، والثاني بكفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم وتبديل نعته.
{ وَلِلْكَافِرِينَ } وللجاحدين [لدين] محمّد صلى الله عليه وسلم من النّاس كلهم.
{ عَذَابٌ مُّهِينٌ } يُهانون فلا يُعزُون.