التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلاَة وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَـاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ
٧٣
وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ ٱلْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ
٧٤
وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٧٥
وَنُوحاً إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ
٧٦
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
٧٧
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
٧٨
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
٧٩
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ
٨٠
وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ
٨١
وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
٨٢
-الأنبياء

الكشف والبيان

{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } يُقتدى بهم في الخير { يَهْدُونَ } يدعون الناس إلى ديننا.
{ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ } وإقامة { ٱلصَّلاَة وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَـاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ وَلُوطاً } أي وآتينا لوطاً، وقيل واذكر لوطاً { آتَيْنَاهُ حُكْماً } أي الفصل بين الخصوم بالحقّ { وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ ٱلْخَبَائِثَ } يعني سدّ وما كان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم مع أشياء أُخر كانوا يعملونها من المنكرات.
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ * وَنُوحاً إِذْ نَادَىٰ } دعا { مِن قَبْلُ } أي من قبل إبراهيم ولوط { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } أتباعه { مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } الطوفان، والكرب أشد الغم.
{ وَنَصَرْنَاهُ } منعناه { مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أن يصلوا إليه بسوء، وقال أبو عبيد: أي على القوم.
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ } قال مرّة وقتادة: كان الحرث زرعاً، وقال ابن مسعود وشريح: كان كرماً قد نبتت عناقيد { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ } أي رعته ليلاً فأفسدته، والنفش بالليل، والهمل بالنهار، وهما الرعي بلا راع { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } لا يخفى علينا منه شيء، ولا يغيب عنّا علمه.
{ فَفَهَّمْنَاهَا } أي علّمناها وألهمناها يعني القضيّة { سُلَيْمَانَ } دون داود.
{ وَكُلاًّ } يعني داود وسليمان { آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً }.
قال ابن عباس وقتادة والزهري ومرّة: وذلك أنّ رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: هذا انفلتت غنمه ليلاً فوقعت في حرثي، فلم تبق منه شيئاً، فقال له داود: اذهب فإنّ الغنم لك، فأعطاه رقاب الغنم بالحرث، فخرجا فمرّا على سليمان فقال: كيف قضى بينكما، فأخبراه فقال سليمان: لو ولّيت أمرهم لقضيت بغيره، فأخبر بذلك داود فدعاه فقال: كيف تقضي بينهما؟ قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له نسلها ورسلها وحرثها وعوارضها ومنافعها ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا كان العام المقبل وصار الحرث كهيئته يوم أُكل دفع إلى أهله وأُخذ صاحب الغنم غنمه.
وقال ابن مسعود وشريح ومقاتل: إنّ راعياً نزل ذات ليلة بجنب كرم، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم، فصار صاحب الكرم من الغد إلى داود، فقضى بالأغنام لصاحب الكرم لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الأغنام تفاوت، فمرّوا بسليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال: ما قضى الملك في أمركم؟ فقصّوا عليه القصّة فقال سليمان: غير هذا أرفق بالفريقين، فعادوا إلى داود فأخبروه بذلك فدعا سليمان وقال له: بحقّ النبوّة والأُبوّة إلاّ أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، فقال سليمان: تسلّم الأغنام إلى صاحب الكرم حتى يرتفق برسلها ونسلها وصوفها ومنافعها، ويعمل الراعي في إصلاح الكرم إلى أن يعود كهيئته، ثم يرد الاغنام إلى صاحبها فقال: القضاء ما قضيت. وحكم بذلك.
قال الحسن: كان الحكم بما قضى به سليمان، ولم يعنف الله داود في حكمه وهذا يدلّ على أنّ كلّ مجتهد مصيب.
وروى الزهري عن حرام بن محيصة قال: دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطاً لبعض الأنصار فأفسدته، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية، ثم قضى على البراء بما أفسدت الناقة وقال:
"على أصحاب الماشية حفظ الماشية بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار" .
{ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ } أي وسخّرنا الجبال والطّير يسبّحن مع داود إذا سبّح.
قال وهب: كان داود يمرّ بالجبال مسبّحاً وهي تجاوبه وكذلك الطير.
قتادة: «يسبّحن» أي يصلّين معه إذا صلّى.
{ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } ذلك { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } اللبوس عند العرب: السلاح كلّه درعاً كان أو جوشناً أو سيفاً أو رمحاً، يدلّ عليه قول الهذلي يصف رُمحاً:

ومعي لبوس للبئيس كأنّهروق بجبهة ذي نعاج مُجفل

يريد باللبوس الرمح، وإنّما عنى الله سبحانه في هذا الموضع الدرع وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب.
قال قتادة: أول من صنع الدروع داود (عليه السلام) وإنّما كانت صفائح، فهو أوّل من سردها وحلقها.
{ لِتُحْصِنَكُمْ } لتحرزكم وتمنعكم { مِّن بَأْسِكُمْ } حربكم، واختلف القرّاء فيه، فقرأ شيبة وعاصم برواية أبي بكر، ويعقوب برواية رويس، لنحصنكم بالنون، لقوله «وعلّمناه» وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص وروح، بالتاء يعني الصنعة.
{ وَلِسُلَيْمَانَ } أي وسخّرنا لسليمان { ٱلرِّيحَ } وهو هواء محرّك وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ويظهر الحسن بحركته، والريح تذكّر وتؤنّث.
{ عَاصِفَةً } شديدة الهبوب { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني الشام وذلك أنّها كانت تجري لسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ثم تعود به إلى منزله بالشام.
قال وهب بن منبه: كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإنس والجنّ حتى يجلس على سريره وكان إمرأً غزاً قلّ ما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلاّ أتاه حتى يذلّه، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بمعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلّها حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلت أمر الرخاء فمدّته شهراً في روحته وشهراً في غدوته إلى حيث أراد.
قال: فذكر لي منزل بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان إمّا من الجنّ وإمّا من الإنس: نحن نزلناه وما بنينا ومبنيّاً وجدناه، غزونا من اصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله فآتون الشام.
قال الله سبحانه { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ } يعني وسخّرنا لسليمان أيضاً من الشياطين { مَن يَغُوصُونَ لَهُ } أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له الجواهر من البحر { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ } يعني دون الغوص { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } حتى لا يخرجوا من أمره.