التفاسير

< >
عرض

وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ
٢٧
لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ
٢٨
ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٢٩
ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ
٣٠
حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
٣١
ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ
٣٢
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٣٣
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ
٣٤
ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلَٰوةِ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ
٣٥
وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٣٦
لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٧
-الحج

الكشف والبيان

{ وَأَذِّن } يعني وعهدنا إلى إبراهيم ايضاً أن أذّنْ أي أعلِمْ ونادِ في الناس { بِٱلْحَجِّ }.
فقال إبراهيم: يا رب وما يبلغ صوتي؟ فقال: عليك الأذان وعليّ البلاغ، فقام إبراهيم على المقام وقيل: على جبل أبي قبيس ونادى: يا أيها الناس ألا إنّ ربّكم قد بنى بيتاً فحجّوه، فأسمع الله ذلك من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وما بين المشرق والمغرب والبر والبحر ممن سبق في علم الله سبحانه أن يحجّ إلى يوم القيامة، فأجابه: لبيك اللهم لبيك.
وقال ابن عباس: عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة وزعم الحسن أنّ قوله تعالى { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } كلام مستأنف، وأن المأمور بهذا التأذين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمر أن يفعل ذلك في حجّة الوداع.
{ يَأْتُوكَ رِجَالاً } مشاة على أرجلهم جمع راجل مثل قائم وقيام وصائم وصيام.
{ وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ } أي وركبانا، والضامر البعير المهزول، وإنما جمع { يَأْتِينَ } لمكان كلّ، أراد النوق { مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } طريق بعيد.
سمعت أبا الحسن محمد بن القاسم الفقيه يقول: سمعت أبا القاسم بشر بن محمد بن ياسين القاضي يقول: رأيت في الطواف كهلاً قد أجهدته العبادة واصفرّ لونه وبيده عصا وهو يطوف معتمداً عليها، فتقدّمت إليه وجعلت أُسائله فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من خراسان قال: في أي ناحية تكون خراسان؟ كأنّه جهلها؟ قلت: ناحية من نواحي المشرق، فقال: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: في شهرين وثلاثة أشهر، قال: أفلا تحجّون كل عام فأنتم من جيران هذا البيت؟ فقلت له: وكم بينكم وبين هذا البيت؟ فقال: مسيرة خمس سنين، خرجت من بلدي ولم يكن في رأسي ولحيتي شيب، فقلت: هذا والله الجهد البيّن والطاعة الجميلة والمحبة الصادقة، فضحك في وجهي وأنشأ يقول:

زُر مَن هويت وإنْ شطّت بك الداروحال من دونه حجب وأستارُ
لا يمنعك بُعدٌ من زيارتهإنّ المحبّ لمن يهواه زَوارُ

{ لِّيَشْهَدُواْ } ليحضروا { مَنَافِعَ لَهُمْ } يعني التجارة عن سعيد بن جبير، وهي رواية ابن رزين عن ابن عباس قال: هي الأسواق.
مجاهد: التجارة وما يرضي الله سبحانه من أمر الدنيا والآخرة.
سعيد بن المسيب وعطية العوفي ومحمد بن علىّ الباقر: العفو والمغفرة.
{ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } يعني ذي الحجّة في قول أكثر المفسّرين، والمعدودات أيام التشريق، وإنّما قيل لها معدودات لأنّها قليلة، وقيل للعشر: معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها.
وقال مقاتل: المعلومات أيام التشريق.
محمد بن كعب: المعدودات والمعلومات واحدة.
{ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } يعني الهدايا والضحايا من الإبل والبقر والغنم.
{ فَكُلُواْ مِنْهَا } أمر إباحة وليس بواجب. قال المفسرون: وإنّما قال ذلك لأنّ أهل الجاهلية كانوا ينحرون ويذبحون ولا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً.
{ وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ } يعني الزمِن { ٱلْفَقِيرَ } الذي لا شيء له { ثُمَّ لْيَقْضُواْ } واختلف القرّاء في هذه اللامات فكسرها بعضهم فرقاً بين ثم والواو والفاء لأن ثمّ مفضول من الكلام، والواو والفاء كأنهما من نفس الكلمة، وجزمها الآخرون لأنّها كلّها لامات الأمر { تَفَثَهُمْ } والتفث: مناسك الحج كلّها عن ابن عمر وابن عباس.
وقال القرظي ومجاهد: هو مناسك الحج واخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقصّ الأظفار.
عكرمة: التفث: الشعر والظفر.
الوالبي عن ابن عباس: هو وضع الإحرام من حلق الرأس وقصّ الأظفار ولبس الثياب ونحوها. وأصل التفث في اللغة الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك أي ما أوسخك! وأقذرك! قال أمية بن الصلت:

ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثاًوينزعوا عنهم قملاً وصئبانا

{ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } قال مجاهد: نذر الحج والهدي وما ينذر الانسان من شيء يكون في الحج.
{ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } أراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة الذي يطاف بعد التعريف أمّا يوم النحر وأمّا بعده. واختلف العلماء في معنى العتيق، فقال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وقتادة: سمّي عتيقاً لأنّ الله سبحانه أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه، فلم يظهر عليه جبار قطّ، ولم يسلّط عليه إلاّ من يعظّمه ويحترمه.
قال سعيد بن جبير: أقبل تبّع يريد هدم البيت حتى إذا كان بقديد أصابه الفالج فدعا الأحبار فقالوا: إنّ لهذا البيت ربّاً ما قصده قاصد بسوء إلاّ حجبه عنه بمكروه فإن كنت تريد النجاة ممّا عرض لك فلا تتعرّض له بسوء.
قال: فأهدى إلى البيت كسوة وأنطاعاً فأُلبست، وكان أوّل ما أُلبست، ونحر عنده ألف ناقة وعفا عن أهله وبرّهم ووصلهم، فسمّيت المطابخ لمطبخة القوم، وكانت خيله جياداً فسميّت جياد لخيل تبّع، وسميّت قعيقعان لقعقعة السلاح حين أقبل من المدينة.
وقال سفيان بن عيينة: سمّي بذلك لأنه لم يُملك قط، وهي رواية عبيد عن مجاهد قال: إنما سمّي البيت العتيق لأنّه ليس لأحد فيه شيء.
ابن زيد: لأنه قديم وهو أول بيت وضع للناس، يقال: سيف عتيق ودينار عتيق أي قديم، وقيل: لأنه كريم على الله سبحانه، يقول العرب: فرس عتيق.
{ ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ } فيجتنب معاصيه { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ }.
قال ابن زيد: الحرمات: المشعر الحرام والبيت الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام، وقيل: هي المناسك.
{ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ } أن تأكلوها إذا ذكّيتموها { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } في القرآن وهو قوله
{ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ } [المائدة: 3] الآية، وقوله { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام: 121] وقيل: وأُحلّت لكم الأنعام في حال إحرامكم إلاّ ما يتلى عليكم من الصيد فإنه حرام في حال الإحرام.
{ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } يعني عبادتها لأن الأوثان كلّها رجس.
{ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } يعني الكذب والبهتان.
قال أيمن بن حريم: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال:
"يا أيها الناس عدلت شهادة الزور الشرك بالله، ثمَّ قرأ هذه الآية" .
وقال بعضهم: هو قول المشركين في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
{ حُنَفَآءَ } مستقيمين مخلصين { لِلَّهِ } وقيل: حجاجاً غير مشركين به { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي سقط إلى الأرض { فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ } والخطف والاختطاف تناول الشيء بسُرعة، وقرأ أهل المدينة فتخَطّفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أي تتخَطَّفه فأُدغم، وتصديق قراءة العامة قوله تعالى
{ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ } [الصافات: 10].
{ أَوْ تَهْوِي } تميل وتذهب { بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } بعيد.
قال أهل المعاني: إنما شبّه حال المشرك بحال الهاوي في أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفع ضر يوم القيامة.
وقال الحسن: شبّه أعمال الكفّار بهذه الحال في أُنها تذهب وتبطل، فلا يقدرون على شيء منها.
{ ذٰلِكَ } الذي ذكرت من اجتناب الرجس والزور وتعظيم شعائر الله { مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } هذا معنى الآية ونظمها: وشعائر الله: الهدي والبُدن، وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هدي فسمّيت به، وتعظيمها استعظامها واستحسانها واستسمانها.
{ لَكُمْ فِيهَا } أي في الهدايا { مَنَافِعُ } قيل: أن يسمّيها صاحبها بدنة أو هدياً ويشعرها ويقلدّها في رسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها.
{ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو أن يسمّيها هدياً ويوجبها، فإذا فعل ذلك لم يكن له من منافعها شيء، هذا قول مجاهد وعطاء والضحاك وقتادة، ورواية مقسم عن ابن عباس، وقيل: معناه: لكم في هذه الهدايا منافع بعد إنجابها وتسميتها هدياً بأن تركبوها إذا احتجتم إليها وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها، إلى أجل مسمّى يعني إلى أن تُنحر، وهذا قول عطاء بن أبي رباح.
وقال بعضهم: أراد بالشعائر المناسك ومشاهد مكة، ومعنى الآية: لكم فيها منافع بالتجارة والأسواق إلى أجل مسمّى وهو الخروج من مكة، وهذه رواية أبي ذر عن ابن عباس.
وقال بعضهم: لكم فيها منافع بالأجر والثواب في قضاء المناسك وإقامة شعائر الحج إلى أجل مسمى وهو انقضاء أيام الحج.
{ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } أي منحرها عند البيت العتيق يعني أرض الحرم كلّها، نظيرها قوله سبحانه
{ { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [التوبة: 28] أي الحرم كلّه، وقال الذين قالوا: عنى بالشعائر المناسك، معنى الآية: ثم محلّ الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد قضاء المناسك.
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ } جماعة مؤمنة سلفت قبلكم { جَعَلْنَا مَنسَكاً } اختلف القرّاء فيه فقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً بكسر السين في الحرفين على معنى الاسم مثل المجلس والمطلع أي مذبحاً موضع قربان، وقرأ الآخرون بفتح السين فيهما على المصدر مثل المدخل والمخرج أي إهراق الدماء وذبح القرابين.
{ لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } عند ذبحها ونحرها، وإنّما خصّ بهيمة الأنعام لأنَّ من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير، وإنما قيل بهائم لأنها لا تتكلم.
{ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ } قال ابن عباس وقتادة: المتواضعين، مجاهد: المطمئنّين إلى الله سبحانه، الأخفش: الخاشعين، ابن جرير: الخاضعين، عمرو بن أوس: هم الذين لا يَظلمون، وإذا ظُلموا لم ينتصروا.
{ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَٱلْبُدْنَ } أي الإبل العظام الضخام الأجسام، وتخفّف وتثقّل واحدتها بدنة مثل تمرة وتمر وخشبة وخشب وبادن مثل فاره وفره، والبدن هو الضخم من كلّ شيء ومنه قيل لامرئ القيس بن النعمان صاحب الخورنق والسدير: البدن لضخمه، وقد بدُن الرجل بدناً وبدانةً إذا ضخم، فأما إذا أشفى واسترخى قيل: بدّن تبديناً.
وقال عطاء والسدّي: البدن: الإبل والبقر.
{ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } أي أعلام دينه إذا أُشعر { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } النفع في الدنيا، والأجر في العقبى { فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا } عند نحرها، قال ابن عباس: هو أن تقول: الله أكبر لا إله إلاّ الله والله أكبر، اللهمّ منك ولك.
{ صَوَآفَّ } أي قياماً على ثلاث قوائم قد صفّت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك.
روى يعلى بن عطاء عن يحيى بن سالم قال: رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته فقال: صوافّ كما قال الله سبحانه، فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها.
وقال مجاهد: الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث وتنحر كذلك.
وقرأ ابن مسعود: صوافن وهي المعقلة تعقل يد واحدة، وكانت على ثلاث وتنحر، وهو مثل صواف.
وقرأ أُبيّ: صوافي وهكذا أيضاً مجاهد وزيد بن أسلم بالياء أي صافية خالصة لله سبحانه لا شريك له فيها كما كان المشركون يفعلون.
{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض.
وقال ابن زيد: فإذا ماتت، وأصل الوجوب الوقوع، يقال: وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب، ووجب الفعل إذا وقع ما يلزم به فعله.
{ فَكُلُواْ مِنْهَا } أمر إباحة ورخصة مثل قوله سبحانه
{ { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [المائدة: 2] وقوله سبحانه وتعالى { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [الجمعة: 10].
{ وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ } اختلفوا في معناهما، فروى العوفي عن ابن عباس وليث عن مجاهد أنّ القانع الذي يقنع بما أُعطي، ويرضى بما عنده ولا يسأل، والمعترّ: الذي يمرّ بك ويتعّرض لك ولا يسأل.
عكرمة وابن ميثم وقتادة: القانع: المتعفف الجالس في بيته، والمعترّ: السائل الذي يعتريك ويسألك، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس.
حصيف عن مجاهد، القانع: أهل مكة وجارك وإن كان غنّياً، والمعتّر الذي يعتريك ويأتيك فيسألك، وعلى هذه التأويلات يكون القانع من القناعة وهي الرضا والتعفّف وترك السؤال.
سعيد بن جبير والكلبي: القانع: الذي يسألك، والمعترّ: الذي يتعرّض لك ويريك نفسه ولا يسألك، وعلى هذا القول يكون القانع من القنوع وهو السؤال. قال الشماخ:

لمال المرء يصلحه فيغنيمفاقره أعفّ من القنوع

وقال لبيد:

واعطاني المولى على حين فقرهإذا قال أبصر خلّتي وقنوعي

وقال زيد بن أسلم: القانع: المسكين الذي يطوف ويسأل، والمعترّ: الصديق الزائر الذي يعترّ بالبدن.
ابن أبي نجيح عن مجاهد: القانع: الطامع، والمعتر: من يعتر بالبدن من غنّي أو فقير.
ابن زيد: القانع: المسكين، والمعترّ الذي يعترّ القوم للحمهم وليس بمسكين ولا يكون له ذبيحة، يجيء إلى القوم لأجل لحمهم.
وقرأ الحسن: والمعتري وهو مثل المعتر، يقال: عراه واعتراه إذا أتاه طالباً معروفه.
{ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا } وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطّخوا حيطان الكعبة بدمائها فأنزل الله سبحانه { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ } أي لن يصل إلى الله { لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا }.
{ وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ } أي النيّة وإلاخلاص وما أُريد به وجه الله عزّ وجلّ، وقرأ يعقوب تنال وتناله بالتاء، غيره: بالياء.
{ كَذٰلِكَ } هكذا { سَخَّرَهَا } يعني البدن { لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } لإعلام دينه ومناسك حجّه وهو أن يقول: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا.