التفاسير

< >
عرض

قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ
٤٩
قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ
٥٠
وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
٥١
وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
٥٢
وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
٥٣
-سبأ

الكشف والبيان

{ قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ } القرآن والإسلام، وقال الباقر: يعني السيف. { وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } يعني ذهب الباطل وزهق فلم تبقَ له بقية يبدي بها ولا يعيد، وهذا كقوله: { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ }.
وقال الحسن: و { مَا يُبْدِىءُ } الباطل، وهو كل معبود من دون الله لأهله خيراً في الدنيا و { مَا يُعِيدُ } في الآخرة.
وقال قتادة: الباطل إبليس، أي ما يخلق إبليس أحداً ولا يبعثه، وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن إبراهيم بن علي عن محمد بن عمران بن هارون عن سفيان بن وكيع عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود معه ويقول: { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } { جَآءَ ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ }.
{ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي } وآخذ بجنايتي { وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ }.
{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } يعني من عذاب الدنيا، فلا نجاة { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } يعني عذاب الدُّنيا، وقال الضحاك وزيد بن أسلم: هو يوم بدر. الكلبي: من تحت أقدامهم.
وأخبرنا محمد بن نعيم عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن الحسن بن عطية عن يعقوب الأصفهاني عن ابن أبزي: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْت } قال: خسف بالبيداء.
أخبرني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا البغدادي أخبرهم قال: أخبرنا محمد بن جرير قال: حدّثني عصام بن رواد بن الجراح قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سُفيان بن سعيد قال: حدّثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فتنة تكون بين أهل الشرق والمغرب:
"فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق، فيبعث جيشين: جيشاً إلى المشرق، وجيشاً إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف، ويبقرون بها أكثر من مئة امرأة، ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام، فتخرج راية هدىً من الكوفة، فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم ولا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها. ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله سبحانه جبرائيل(عليه السلام) فيقول: يا جبرائيل اذهب فأبدهم. فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } فلا ينفلت منهم إلاّ رجلان: أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة" .
فلذلك جاء القول: "وعند جهينة الخبر اليقين".
وقال قتادة: ذلك حين يخرجون من قبورهم، وقال ابن معقل: إذا عاينوا عذاب الله يوم القيامة وأُخذوا من مكان قريب؛ لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه.
{ وَقَالُوۤاْ } حين عاينوا العذاب في الدنيا والآخرة وقت البأس { آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ }: من أين { لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ } تناول التوبة ونيل ما يتمنون؟ قال ابن عباس: يسألون الراد وليس يحين الرد، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (التناؤش): بالهمز والمد، وهو الإبطاء والبعد. يُقال: تناشيت الشيء أي أخذته من بعيد، والنيش الشيء البطيء.
قال الشاعر:

تمنى نئيشاً أن يكون أطاعنيوقد حدثت بعد الأُمور أُمور

وقال آخر:

وجئت نئيشاً بعدها فاتك الخبر

وقرأ الباقون: بغير همز، من التناول. يُقال: نشته نوشاً إذا تناولته.
قال الراجز:

فهي تنوش الحوض نوشاً من علانوشاً به تقطع أجواز الفلا

وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضاً وتدانوا، واختار أبو عبيد: ترك الهمز؛ لأنّ معناه: التناول، وإذا همز كان معناه البعد. فكيف يقول: أنى لهم البعد { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }: من الآخرة؟ فكيف يتناولون التوبة، وإنما يقبل التوبة في الدُّنيا وقد ذهبت الدُّنيا فصارت بعيدة من الآخرة؟
{ وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ }، أي من قبل نزول العذاب { وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيد }، يعني يرمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالظنون لا باليقين، وهو قولهم: إنه ساحر، بل شاعر، بل كاهن، هذا قول مجاهد، وقال قتادة: يعني يرجمون بالظن، يقولون: لا بعث ولا جنّة ولا نار.
{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ }، يعني التوبة والإيمان والرجوع إلى الدُّنيا { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم } أي أهل دينهم وموافقهم من الأُمم الماضية حين لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت البأس { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ }.