التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
٣٧
وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً
٣٨
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِم عَلِيماً
٣٩
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً
٤٠
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً
٤١
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً
٤٢
-النساء

الكشف والبيان

{ ٱلَّذِينَ } في محل النصب ردّاً على { مَّنْ } وقيل: (المختال الفخور)، { يَبْخَلُونَ } البخل في كلام العرب: منع الرجل سائله ما لديه من فضل عنه، وفي الشرع: منع الواجب، وفيه أربع لغات: البخل بفتح الباء والخاء وهي قراءة أنس بن مالك وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحمزة والكسائي وخلف والمفضل ولغة الأنصار. والبَخْل بفتح الباء وسكون الخاء وهي قراءة قتادة وعبد الله بن سراقة، وأيّوب السجستاني، والبُخُل بضم الباء والخاء وهي قراءة عيسى بن عمرو. والبُخْل بضم الباء وجزم الخاء وهي قراءة الباقين، واختيار أبي عبيد وأبي مسلم لأنها اللغة العالية، وفي الحديد مثله. وكلُّها لغات، ونظيره في الكلام: (أرض جَرز، وجُرُز، وجُرْز).
واختلف العلماء في نزول الآية ومعناها، فقال أكثرهم: نزلت في اليهود؛ كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبيّنوها للنّاس، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة. يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير: { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ }، قال هذا في العلم ليس للدنيا منه شيء.
قال ابن عباس وابن زيد: نزلت في كردم بن زيد وأُسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع ويحيى بن يعمر وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت، كانوا يأتون رجالا من الأنصار ويخالطونهم وينصحونهم، فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم؛ فإنّا نخشى عليكم الفقر، ولا ندري ما يكون، فأنزل الله عزّ وجلّ { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } إلى قوله: { مِن فَضْلِهِ } يعني المال.
وقال يمان: يعني يبخلون بالصدقة. الفضل بن فضالة، عن أبي رجاء قال: خرج علينا عمران بن حصين في مطرف من خزّ لم نره عليه قبل ولا بعد، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمة، أحبَّ أن يُرى أثر نعمته عليه" .
{ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً * وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ } إلى الأخير، محل الذين نصب عطفاً على قوله: { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } ، وإن شئت جعلته في موضع الخفض عطفاً على قوله: { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ } نزلت في اليهود، وقال السدي: في المنافقين، وقيل: في مشركي مكة المتفقين على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً } صاحباً وخليلا، وهو فعيل من الاقتران، قال عدي بن زيد:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينهفكل قرين بالمقارن يقتدي

{ فَسَآءَ قِرِيناً } فبئس الشيطان قريناً، وقد نصب على التمييز، وقيل: على الحال، وقيل: على القطع بإلقاء الألف واللام منه، كما نقول: نعم رجلا، عبد الله، تقديره: نعم الرجل عبد الله، فلمّا حذف الألف واللام نصب، كقوله { { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } [الكهف: 50]، و { { سَآءَ مَثَلاً } [الأعراف: 177]، و { { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } [الكهف: 29]، و { { سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً } [الفرقان: 66]، { { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [النساء: 69]، و { { كَبُرَ مَقْتاً } [غافر: 35، فصلت: 2]، قال المفسرون: { فَسَآءَ قِرِيناً } أي يقول: { { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } } [الزخرف: 38].
{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ } وما الذي عليهم { لَوْ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِم عَلِيماً * إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } إلى آخر الآية، وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر، وأنفقوا مما رزقهم الله؟ فإنّ الله لا يظلم أي لا يبخس ولا ينقص أحداً من خلقه من ثواب عمله شيئاً مثقال ذرّة مثلا، بل يجازيه بها ويثيبه عليها وهذا مثل يقول: إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة، فكيف بأكثر منها؟ والمراد من الكلام: لا يظلم قليلا، لأن الظلم مثقال ذرّة لا ينتفع به الظالم، ولا يبين ضرره في المظلوم. وقيل: [...]، ودليله من التأويل قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً } [يونس: 44] في الدنيا.
واختلفوا في الذرّة، فقال ابن عباس: هي النملة الحميراء الصغيرة، لا تكاد تبين في رأي العين. وقال يزيد بن هارون: وزعموا أنّ الذرة ليس لها وزن، ويحكى أنّ رجلا وضع خبزاً حتى علاه الذرّة يستره، فلم يزد على وزن الخبز شيئاً. ودليل هذا التأويل ما روى بشير بن عمرو عن عبد الله أنّه قرأ: (إنّ الله لا يظلم مثقال نملة).
يزيد بن الأصم عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ }، قال: أدخل ابن عباس يده في إناء ثم رفعها، ثم نفخ فيها، ثم قال: كلُّ واحدة من هؤلاء ذرّة، وقال بعضهم: أجزاء الهباء في الكوّة كلّ جزء منها ذرّة. وقيل: هي الخردلة.
وفي الجملة هي عبارة عن أقلّ الأشياء وأصغرها، روى أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأمّا الكافر، فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، لم يكن له حسنة" .
قتادة: كان بعض أهل العلم يقول: لئن يفضل حسناتي على سيئاتي وزن ذرّة أحبُّ إليّ من أن يكون لي الدنيا جميعاً.
عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلص المؤمنون من النار يوم القيامة، وأمنوا فما مجادلة أحدكم صاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشدّ من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أُدخلوا النار، قال: يقولون: ربّنا إخواننا كانوا يُصلّون معنا، ويصومون معنا، ويحجّون معنا، فأدخلتهم النار؟ فيقول الله عزّ وجلّ: اذهبوا وأخرجوا من عرفتم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبه، فيخرجونهم فيقولون: ربّنا أخرجْنا من أَمرتَنا، ثم يقول تعالى: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار، حتى يقول: من كان في قلبه مثقال ذرّة.
وقال أبو سعيد: فمن لم يصدق بهذا فليقرأ هذه الآية { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ... }.
قال: فيقولون: ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبقَ في النار أحد فيه خير. قال: ثم يقول الله عزّ وجلّ: شُفعت الملائكة، وشُفعت الأنبياء، وشُفعت المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين، قال: فيقبض قبضة من النار أو قال: قبضتين ممن لم يعملوا له عزّ وجلّ خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً، قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له ماء الحياة فيصبّ عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فيخرجون وأجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم: (عتقاء الله عزّ وجلّ)، فيقال لهم: ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم عندي أفضل من هذا.
قال: فيقولون: ربّنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين. قال: فيقول: ان لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: ربّنا وما أفضل من ذلك؟ قال: فيقول: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً"
.
وقال آخرون: هذا في الخبر عن ابن [...] عن عبد الله بن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين، ثم نادى مناد من عند الله: ألا من كان يطلب مظلمة إلى أخيه فليأخذ. قال: فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذ منه، وإن كان صغيراً، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: { { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [المؤمنون: 101]، فيؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأشهاد: الأولين والآخرين، هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق، فليأتِ إلى جنبه ثمّ يقال له: آتِ هؤلاء حقوقهم. فيقول: من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرّة من حسنة، قالت الملائكة: ربّنا أنت أعلم بذلك منهم، أعطينا كلّ ذي حق حقه وبقي له مثقال ذرّة من حسنة، فيقول للملائكة: ضاعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل منّي الجنّة، ومصداق ذلك في كتاب الله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }.
وإن كان العبد شقيًّا، فتقول الملائكة: إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته، وبقي طالبون كثير، فيقول عزّ وجلّ: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكّوا له صكاً إلى النار.
فمعنى الآية على هذا التأويل: لا يظلم، مثقال ذرّة للخصم على الخصم، بل يثيبه عليها ويضاعفها له، وذلك قوله { حَسَنَةً } بالنصب على معنى: وان يكن زنةُ الذرّة. وقرأها أهل الحجاز رفعاً، بمعنى أن يقع أو يوجد حسنة، وقال المبرّد: معناه وإن تك حسنة باقية يضاعفها.
وقرأ الحسن: (نضاعفها) بالنون الباقون: بالياء، وهو الصحيح؛ لقوله: { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ } وقرأ أبو رجاء وأهل المدينة يُضعّفها. الباقون: يُضْعِفها وهما لغتان معناهما التكثير. وقال أبو عبيده: يضاعفها معناه يجعلها أضعافاً كثيرة، ويضعّفها بالتشديد يجعلها ضعفين.
{ وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ } أي من عنده، قال الكسائي: في (لدن) أربع لغات لدن، ولدى ولدُ ولدُنْ. ولمّا أضافوها إلى انفسهم شدّدوا النون.
{ أَجْراً عَظِيماً } وهو الجنّة. عن أبي عثمان قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال:
"إنّ الله عزّ وجلّ يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة، قال أبو هريرة: لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعطيه ألفي ألف حسنة، ثم تلا: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ }، إلى { أَجْراً عَظِيماً }.
وقال: إذا قال الله: أجراً عظيماً، فمن بعد يدري قدره؟"
.
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } يعني فكيف يصنعون إذا جئنا من كلِّ أُمّة بشهيد حق منها، يشهد عليهم بما عملوا، { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً }؟ نظيره في البقرة والنحل والحج.
عاصم عن زر عن عبد الله قال:
"قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ. فقرأت سورة النساء، حتى إذا بلغت، { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: حسبنا" .
{ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ } قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء وتشديد السين، على معنى: تتسوّى فأُدغمت التاء بالسين، وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً بفتح التاء وتخفيف السين، على حذف تاء تفعل، كقوله: { { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [هود: 105]، وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين على المجهول، قالوا: سُوّيت بهم الأرض وصاروا هم والأرض شيئاً واحداً، وقال قتادة وعبيدة: يعني لو تحركت الأرض فساروا فيها، وعادوا إليها كما خرجوا منها، ثم تسوى عليهم حتى تعلوهم، ابن كيسان: ودوّا أنهم لم يبعثوا طرّاً، وإنما نقلوا من التراب وكانت الأرض مستوية بهم. الكلبي: يقول الله عزّ وجلّ للبهائم والوحش والطير والسباع: كنّ تراباً فتسوّى بها الأرض، فعند ذلك يتمنى الكافرون لو كانوا تراباً يمشي عليهم أهل الجمع، بيانه قوله عزّ وجلّ: { { وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [النبأ: 40].
قال الثعلبي: وحكي أُستاذنا أبو القاسم الحسين أنّه سمع من تأول هذه الآية: يعدل بهم ما على الأرض من شيء فدية، بيانه:
{ { يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } [المعارج: 11] الآية.
{ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً }: قال عطاء: ودّوا لو تسوّى بهم الأرض، وإنّهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا نعته، وقال آخرون: بل هو كلام مستأنف، يعني ويكتمون الله حديثاً؛ لأنّ ما عملوا لا يخفى على الله عزّ وجلّ، ولا يقدرون على كتمانه، الكلبي وجماعة: لا يكتمون الله حديثاً لأنّ خزنة جهنم تشهد عليهم.
سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: أشياء تختلف عليّ في القرآن، أهو شك فيه؟ قال: لا، ولكن اختلاف في آيات الاختلاف عليك من ذلك، فقال: اسمع، الله عزّ وجلّ يقول:
{ { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23]، وقال: { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } فقد كتموا، فقال ابن عباس: أما قولهم{ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا يومَ القيامة أنّ الله يغفر لأهل الإسلام قالوا: تعالوا فلنشهد فجحد المشركون، فقالوا: { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } رجاء أن يغفر لهم فيختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك { يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً }. الحسن: إنّها مواطن، ففي موطن لا يتكلمون ولا يسمع الاّ همساً، وفي مواطن يتكلمون ويكذبون، ويقولون: { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وما كنّا نعمل من سوء، وفي موطن يعترفون على أنفسهم، وهو قوله عزّ وجلّ { { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ } [الملك: 11]، وفي موضع آخر يسألون الرحمة، وإنّ آخر تلك المواطن أنّ أفواههم تختم، وجوارحهم تتكلم، وهو قوله تعالى { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً }.