التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
١
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٢
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٣
أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
-الأنفال

الكشف والبيان

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } الآية قال ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "مَنْ أتى مكان كذا وكذا فله من الفضل كذا، ومَنْ قتل قتيلاً فله كذا، ومَنْ أسر أسيراً فله كذا، فلمّا التقوا سارع إليه الشبّان والفتيان وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات، فلمّا فتح الله على المسلمين جاءوا يطلبون ما جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لهم الأشياخ: كنّا ردءاً لكم ولو انهزمتم فلا تستأثروا علينا، ولا تذهبوا [بالغنائم دوننا].
وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال: يا رسول الله إنّك وعدت مَن قتل قتيلاً فله كذا ومَنْ أسر أسيراً فله كذا وإنّا قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين، فقام سعد بن معاذ فقال: والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادةً في الآخرة ولا جبن عن العدو لكن كرهنا أن يعرّي مصافك فيعطف عليه خيل من خيل المشركين فيصيبوك، فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ عاد أبو اليسر بمثل مقالته وقام سعد بمثل كلامه وقال: يا رسول الله إنّ الناس كثير وإن الغنيمة دون ذلك وإن تعطِ هؤلاء التي ذكرت لا يبقَ لأصحابك كثير شيء فنزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } الآية. فقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بالسويّة"
.
وروى مكحول عن أبي أُمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا معاشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في الفعل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسّمه بين المسلمين عن سواء على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلاح ذات البين.
"وقال سعد بن أبي وقاص: نزلت في هذه الآية ذلك أنّه لمّا كان يوم بدر وقتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أميّة وأخذت سيفه وكان يُسمّى ذا الكثيفة فأعجبني فجئت به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال ليس هذا لي ولا لك اذهب فاطرحه في القبض فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ من قتل أخي وأخذ بيدي قلت: عسى أن يعطي من لم يُبل بلائي فما جاوزت إلاّ قليلاً حتّى جاءني الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عزّ وجلّ: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } فخفت أن يكون قد نزل فيّ شيء، فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا سعد إنّك سألتني السيف وليس لي وإنّه قد صار ليّ فاذهب فخذه فهو لك" .
وقال أبو [أُميّة] مالك بن ربيعة: "أُصبت سيف ابن زيد يوم بدر وكان السيف يُدعى المرزبان فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردّوا ما في أيديهم من النفل فأقبلت به وألقيته في النفل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إيّاه" .
وقال ابن جريج: نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً فاختلفوا فكانوا أثلاثاً فنزلت هذه الآية وملّكها الله رسوله يقسّمها كما أراه الله.
عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس [قال: ] كانت المغانم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو ملكاً فهو غلول فسألوا رسول الله أن يعطيهم منها فأنزل الله عزّ وجلّ يسألونك يا محمد عن الأنفال أي حكم الأنفال وعلمها وقسمها. وقيل: معناه يسألونك من الأنفال { عَنِ } بمعنى (من).
وقيل: "من" صلة أي يسألونك الأنفال. وهكذا قرأ ابن مسعود بحذف { عَنِ } وهو قول الضحاك وعكرمة.
والأنفال الغنائم واحدها نفل. قال لبيد:

إن تقوى ربّنا خير نفلوبإذن الله ريثي والعجل

وأصله الزيادة يقال: نفلتك وأنفلتك أي: زدتّك.
واختلفوا في معناها:
فقال أكثر المفسّرين: معنى الآية يسألونك عن غنائم بدر لمن هي.
وقال عليّ بن صالح بن حيي: هي أنفال السرايا.
وقال عطاء: فَأْنشد من المشركين إلى المسلمين بغير قبال من عبد أو أمة أو سلاح فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء.
وقال ابن عباس: هي ما يسقط من المتاع بعدما يقسم من الغنائم فهي نفل لله ولرسوله.
وقال مجاهد: هي الخمس وذلك أنّ المهاجرين سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس وقالوا: لِمَ يرفع منّا هذا الخمس، لِمَ يخرج منّا فقال الله تعالى: { قُلِ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ } يقسّمانها كما شاءا أو ينفلان فيها ما شاءا أو يرضخان منها ما شاءا.
واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة أم منسوخة:
فقال مجاهد وعكرمة والسدي: هي منسوخة نسخها قوله { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية [الأنفال: 41].
وكانت الغنائم يومئذ للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة فنسخها الله بالخمس.
وقال عبد الرحمن بن أيد: هي ثابتة وليست منسوخة وإنّما معنى ذلك قل الأنفال لله وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيها ثمّ أنزل حكم الغنائم بعد أربعين آية فإنّ لله خُمسه ولكم أربعة أخماس.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
"هذا الخمس مردود على فقرائكم" ، وكذلك يقول في تنفيل الأيام بعض القوم واقتفائه إياه ليلاً، وعلى هذه يفرق بين الأنفال والغنائم بقوله تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } وذلك حين اختلفوا في الغنيمة أمرهم بالطاعة والجماعة ونهاهم عن المفارقة والمخالفة.
قال قتادة وابن جريج: كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ينفل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفّار إذا قتله وكان ينفل على قدر عنائه وبلائه حتّى إذا كان يوم بدر ملأ الناس أيديهم غنائم، فقال أهل الضعف: ذهب أهل القوّة بالغنائم فنزلت { قُلِ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } ليرد أهل القوّة على أهل الضعف فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد بعضهم على بعض فأمرهم الله بالطاعة فيها فقال { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } واختلفوا في تأنيث ذات البين فقال أهل البصرة أضاف ذات البين وجعله ذات لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم المؤنث وبعضها يُذكر نحو الدار والحائط أنّث الدار وذكّر الحائط.
وقال أهل الكوفة: إنّما أراد بقوله { ذَاتَ بِيْنِكُمْ } الحال التي للبين فكذلك ذات العشاء يريد الساعة التي فيها العشاء.
قالوا: ولم يضعوا مذكّراً لمؤنّث ولا مؤنّثاً لمذكّر إلاّ لمعنى به وقوله { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } الآية يقول الله تعالى ليس المؤمنون من الذي يخالف الله ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فرقّت به قلوبهم وهكذا هو في مصحف عبد الله.
وقال السدي: هو الرجل يريد أن يهتم بمعصية فينزع عنه { وَإِذَا تُلِيَتْ } قُرئت { عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } وقال ابن عباس: تصديقاً، وقال الضحاك: يقيناً. وقال الربيع بن أنس: خشية. وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة: إن للإيمان زيادة ونقصان، قيل: فما زيادته؟
قال: إذا ذكرنا الله وجدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وقصّرنا وغفلنا فذلك نقصان.
وقال عدي بن عدي: كُتب إلى عمر بن عبد العزيز أن للإيمان سنناً وفرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان، ومَنْ لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، [قال عمر بن عبد العزيز: فإن أعش فسأُبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص].
{ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي يفوّضون إليه أُمورهم ويتّقون به فلا يرجون غيره ولا يخافون سواه والتوكل الفعل من الوكول { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } أي حقّوا حقاً يعني يقيناً صدقاً. وقال ابن عباس: يقول برأوا من الكفر. وقال مقاتل: حقّاً لا شك في إيمانهم كشك المنافقين.
وقال قتادة: استحقّوا الإيمان بحق فأحقّه الله لهم. وقال ابن عباس: مَنْ لم يكن منافقاً فهو مؤمن حقّاً.
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله الرازي، قال: أخبرنا عليّ بن محمد بن عمير قال: إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا هشام بن عبيد الله قال: حدّثنا عبيد [الله هشام] بن حاتم عن عمرو بن [درّ] عن إبراهيم قال: إذا قيل لأحدكم أمؤمن أنت حقّاً، فليقل: إنّي مؤمن حقّاً فإن كان صادقاً فإنّ الله لا يعذّب على الصدق ولكن يثيب عليه.
فإن كان كاذباً فما فيه من الكفر أشد عليه من قوله له: إنّي مؤمن حقّاً. وقال ابن أبي نجيح: سأل رجل الحسن فقال: أمؤمن أنت؟
فقال: الإيمان إيمانان فإنّ كنتَ تسأل عن الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورُسله واليوم الآخر والجنّة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلى قوله تعالى { عِندَ رَبِّهِمْ } فوالله ما أدري أمنهم أنا أم لا.
وقال علقمة: كنّا في سفر فلقينا قوماً فقلنا: من القوم؟ فقالوا: نحن المؤمنون حقّاً، فلم ندرِ ما نجيبهم حتّى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا فقال: فما رددتم عليهم؟ قلنا: لم نرد عليهم شيئاً.
قال: أفلا قلتم أَمِنْ أهل الجنّة أنتم؟ إن المؤمنين من أهل الجنّة.
وقال سفيان الثوري: مَنْ زعم أنّه مؤمن حقّاً أمن عند الله ثمّ [وجد] أنّه في الجنّة بعد إيمانه بنصف الآية دون النصف، ووقف بعضهم على قوله: { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ }.
وقال: تم الكلام هاهنا.
ثمّ قال: حقّاً له درجات فجعل قوله حقّاً تأكيداً لقوله { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } وقال مجاهد: أعمال رفيعة. وقال عطاء: يعني درجات الجنّة يرقونها بأعمالهم.
هشام بن عروة: يعني ما أعدّ لهم في الجنّة من لذيذ المأكل والمشارب وهني العيش. وقال ابن محيريز: لهم درجات سبعون درجة كلّ درجة لحافر الفرس الجواد المغير سبعين عاماً { وَمَغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي حسن [وعظيم وهو] الجنّة.