التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٢٧
وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٨
يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٣١
-الأنفال

الكشف والبيان

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } قال عطاء ابن أبي رباح: حدّثني جابر بن عبد الله "أن أبا سفيان خرج من مكّة فأتى جبرئيل (عليه السلام) النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا قال: فكتب رجلا من المنافقين إليه أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله تعالى الآية"
.
وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من النبيّ صلى الله عليه وسلم فيفشونه حتّى بلغ المشركين.
وقال الزهري والكلبي: نزلت هذه الآية في أبي لبابة واسم أبي لبابة هارون بن عبد المنذر الأنصاري من بني عوف بن مالك وذلك
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النضير على أن يسيروا الى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم، لأن عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أنزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى طقه أنّه الذبح فلا تفعلوا.
قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أن قد خنت الله والرسول فلمّا نزلت هذه الآية شد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتّى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتّى خرّ مغميّاً عليه ثمّ تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تُبت عليك.
قال: لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلّني فجاءه فحله بيده، ثمّ قال أبو لبابة: إن مَنْ تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب. وأن أنخلع من مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزيك الثلث إن تصدقت"
.
فقال المغيرة بن شعبة: نزلت هذه الآية في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال محمد بن إسحاق: معنى الآية لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثمّ تُخالفونه في السر إلى غيره.
وقال ابن عباس: لا تخونوا الله بترك فرائضه، والرسول بترك سنته، وتخونوا أماناتكم.
قال السدي: إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم.
وعلى هذا التأويل يكون قوله (ويخونوا) نصباً على جواب النهي.
والعرب تنصب جواب النهي وقالوا كما ينصب بالفاء.
وقيل: هو نصب على الصرف كقول الشاعر:

لا تنهى عن خلق وتأتي مثلهعارٌ عليك إذا فعلت عظيم

وقال الأخفش: هو عطف على ما قبله من النهي، تقديره: ولا تخونوا أماناتكم.
وقرأ مجاهد: أمانتكم واحدة. واختلفوا في هذه [الآية] فقال ابن عباس: هو ما يخفي عن أعين الناس من فرائض الله عزّ وجلّ والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد يقول لا تنقضوها.
وقال ابن زيد: معنى الامانات هاهنا الدين وهؤلاء المنافقون ائتمنهم الله على دينه فخانوا، إذ أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر.
قال قتادة: إنّ دين الله أمانة فأدّوا الى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده. ومَنْ كانت عليه أمانة فليردّها إلى مَنْ أئتمنه عليها.
{ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ } التي عند بني قريظة { فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ } بطاعته وترك معصيته واجتناب خيانته { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } قال مجاهد: مخرجاً في الدنيا والآخرة.
وقال مقاتل بن حيان: مخرجاً في الدين من الشبهات. وقال عكرمة: نجاة. وقال الضحاك: بياناً. وقال مقاتل: منقذاً.
قال الكلبي: بصراً، وقال ابن إسحاق: فصلاً بين الحق والباطل، يظهر الله به حقكم ويطفئ به باطل مَنْ خالفكم.
وقال ابن زيد: فرقاً يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل حتّى يعرفوه ويشهدوا به.
والفرقان مصدر كالرحمان والنقصان.
تقول: فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما فرقاً وفروقاً وفرقاناً، { وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ } ما سلف من ذنوبكم { وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ * وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } هذه الآية معطوفة على قوله تعالى: { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } [الأنفال: 26]. { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }. { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ } لأن هذه السورة مدنية.
وهذا القول والمكر كان بمكة، ولكن الله تعالى ذكرهم ذلك بالمدينة كقوله
{ { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } [التوبة: 40] وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من المفسّرين أن قريشاً لمّا أسلمت الأنصار فرقوا أن تتفاقم أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاجتمع نفر من مشايخهم وكبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت روؤسائهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبا جهل وأبا سفيان وطعمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام وبنيه ومنبّه ابنا الحجاج وأُميّة بن خلف فاعترض لهم إبليس في صورة شيخ فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا من رأي ونصح، قالوا: ادخل فدخل.
فقال أبو البحتري: أمّا أنا فأرى أن تأخذوه وتحبسوه في بيته وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت فتتركوه وتقدموا إليه طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، وإنّما هو كأحدهم.
فصرخ إبليس الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي رأيتم تعمدون إلى الرجل وتحبسونه فيتم أجره، وقد سمع به مَنْ حولكم، [فأوشكوا أن يشبّوا فينتزعوه من أيديكم] ويقاتلونكم عنه حتّى يأخذوه منكم.
قالوا: صدق الشيخ. فقال هشام بن عمرو وهو من بني عامر بن لؤي: أمّا أنا فأرى أن تحملوه على بعير فيخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم [ما ضر من] وقع إذا غاب عنكم واسترحم وكان أمره في غيركم. فقال إبليس بئس الرأي رأيكم تعمدون الى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجوا به الى غيركم يفسدهم كما أفسدكم، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقه لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه. والله لئن فعلتم، ثمّ استعرض العرب لتجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم فيخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم.
قالوا: صدق والله الشيخ.
فقال أبو جهل: لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره: إني أرى أن نأخذ واحداً من كل بطن من قريش غلاماً وسبطاً ثمّ يعطى كل رجل منهم سيفاً صارماً ثمّ يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمّه في القبائل كلّها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلّها وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدّي قريش ديته واسترحنا، فقال إبليس: صدق هذا الفتى و[هذا] أجودكم رأياً، القول ما قاله لا أرى غيره.
فتفرقوا على قول أبي جهل، وهم مجتمعون فأتى جبرئيل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت على مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج الى المدينة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه فنام في مضجعه فقال: اتشح ببردي فإنّه لن يخلص إليك أمر تكرهه.
ثمّ خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخذ قبضه من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه وجعل ينثر التراب على رؤسهم وهو يقرأ
{ { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } [يس: 8] ومضى إلى الغار من ثور فدخله هو وأبو بكر وخلّف عليّا رضي الله عنه بمكّة حتّى يؤدّي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقه وأمانته وكان المشركون يتحرسون عليّاً رضي الله عنه وهو على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون أنّه النبيّ، فلمّا أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليّاً رضي الله عنه.
وقد ردّ الله مكرهم وما ترك منهم رجلا إلاّ وضع على رأسه التراب.
فقالوا: أين صاحبك؟
قال: لا أدري فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الجبل، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، وقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث أيام ثمّ قدم المدينة فذلك قوله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ }.
قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي: ليوثقوك. وقال قتادة: ليشدوك وثاقاً.
وقال عطاء. وعبد الله بن كثير: ليسجنوك. وقال أبان بن ثعلب. وأبو حاتم: ليثخنوك بالجراحات والضرب. وأنشد:

فقلت ويحك ماذا في صحيفتكمقالوا ألخليفة امسى مثبتاً وجعاً

وقيل: معناه ليسخروك.
وروى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عبد المطلب بن أبي وداعة
"أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدري ما أضمر بك قومك؟
قال: نعم [يريدون] أن يسخروا بي ويقتلوني أو يخرجوني فقال: مَنْ أخبرك بهذا؟
قال: ربّي.
قال: نِعم الرب ربّك فاستوصِ ربّك خيراً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا استوصي به بل هو يستوصي بي خيراً"
.
وقرأ إبراهيم النخعي (وليثبتوك) من البيات { أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ } قال الحسن: فيقولون ويقول الله.
وقال الضحاك: ويصنعون ويصنع الله { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } خير من استنقذك منهم وأهلكهم { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ } يعنى النضر بن الحرث { قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا } وذلك أنّه كان [يختلف] تاجراً إلى فارس والحيرة فيسمع سجع أهلها وذكرهم أخبار العجم وغيرهم من الأُمم، فمر باليهود والنصارى فرآهم يقرأون التوارة والإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء مكّة فوجد محمداً يقرأ القرآن ويصلّي. فقال النضر: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينََ } أخبار الأُمم الماضية وأعمارهم، قال السدي: أساجيع أهل الحيرة.
والأساطير جمع الجمع وأصلها من قوله: سطرت أي كتبت، وواحدها سطر ثمّ تجمع أسطار أو سطور ثمّ فيجمعان أساطر وأساطير. وقيل: الأساطير واحدها أُسطورة وأسطار. والجمع القليل: أسطر.