التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١١٥
إِنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
١١٦
لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١١٧
وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١١٨
يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ
١١٩
مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٢٠
وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢١
-التوبة

الكشف والبيان

{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } يقول: وما كان الله [ليحكم] عليكم بالضلال بعد استغفاركم للمشركين قبل أن يتقدم إليكم بالنهي.
قال مجاهد: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة، فافعلوا أو ذروا.
وقال مقاتل والكلبي: لما أنزل الله تعالى الفرائض فعمل بها الناس [ثم] نسخها من القرآن وقد غاب (ناس) وهم يعملون للأمر الأول من القبلة والخمر وأشباه ذلك، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } يعني وما كان الله ليبطل عمل قوم عملوا بالمنسوخ { حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم } قال الضحاك: ما كان الله ليضل قوماً حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ثم عظّم نفسه فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } يعني يحكم فيهما بما يشاء { يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ } قال ابن عباس: ومن تاب الله عليه لم يعذبه أبداً.
واختلفوا في معنى التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أهل التفسير: بإذنه للمنافقين في التخلف عنهم، وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام ما كان هو صنف توبتهم ذكر معهم كقوله
{ { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [الأنفال: 41] ونحوه { وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ } أي في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها. قال جابر: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء.
قال الحسن: كان الناس من المسلمين يخرجون على بعير يعقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه، كذلك كان زادهم التمر المسوس والشعير والأهالة المنتنة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلاّ التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من الماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلاّ النواة فمضوا [في قيض شديد] ورسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقتهم ويقينهم.
وقال ابن عباس:
"قيل لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ما في شأن العسرة؟ فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [إلى قيض شديد] فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى قلنا أن رقابنا ستقطع، حتى أن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى أنّ الرجل سينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) لرسول الله: إن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، قال: تحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يديه ولم يرجع بها حتى أظلت السماء بسحاب ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر" .
{ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ } تميل { قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } لعظم البلاء، وقرأ العامة: تزاغ، بالتاء ودليله قراءة عبد الله قال: (زغيّهم)، قراءة حمزة والأعمش والجحدري والعباس بن زيد الثقفي بالياء. قال الأعمش: قرأتها بالياء في نية التأخير وفيه ضمير فاعل { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } يعني تاب على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فلم يخرجوا، وقيل: خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وأرجى أمرهم وقد مضت السنة.
وقرأ عكرمة وحميد: خلفوا بفتح الخاء واللام والتخفيف أي [فدله بعقب] رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عن جعفر بن محمد الصادق (رضي الله عنه) انه قرأ: خالفوا، وقراءة الأعمش: وعلى الثلاثة المخلفين، وهم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كلهم من الأنصار وروى عبيد عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه عبد الله بن كعب وكان قائد أبيه كعب حين أُصيب بصره. قال: سمعت
"أن كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك غير بدر ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغيثين لعيرهم فالتقوا من غير موعد كما قال الله عزّ وجل ولعمري أن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام، ثم لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد في غزوة غزاها إلى أن كانت غزوة تبوك وأذن الناس بالرحيل وذلك حين طاب الظلال وطابت الثمار، وكان قلّ ما أراد غزوة إلاّ [ورى غيرها] وكان يقول: الحرب خدعة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أن يتأهّب الناس أهبتها وأنا أيسر ما كنت قد جهزت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي الجهاد وأنا في ذلك أصغو إلى الظلال وطيب الثمار فلم أزل كذلك حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم غادياً بالغداة وذلك يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس فأصبح غادياً فقلت: أنطلق غداً إلى السوق أشتري جهازي ثم ألحق بهم فانطلقت إلى السوق من غد فعسر عليَّ بعض شأني فرجعت فقلت: أرجع غداً إن شاء الله فألحق بهم، فعسر عليَّ بعض شأني أيضاً فلم أزل كذلك حتى التبس بي الذنب وتخلّفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة فيحزنني أنّي لا أرى أحداً تخلف إلاّ رجلا مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء وكان الناس كثيراً لا يجمعهم ديوان وكان جميع من تخلّف عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعاً وثمانين رجلا ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو بتبوك جالس: ما فعل كعب بن مالك؟.
فقال رجال من قومي: يا نبيّ الله خلّفه راحلته والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت والله يا نبي الله ما نعلم إلاّ خيراً، فبينما هم كذلك إذا همّ برجل مبيضاً يزول به السراب فقال النبي صلى الله عليه وسلم كن أبا خثيمة وإذا به أبو خثيمة الأنصاري وهو الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وقفل إلى المدينة (جعلت بما أخرج) من سخط النبي صلى الله عليه وسلم فأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي حتى إذا قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم (مضى يصلي) بالغداة راح عني الباطل وعرفت أن لا أنجو إلاّ بالصدق فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وصلّى في المسجد ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يحلفون له ويعتذرون إليه فيستغفر لهم فقبل منهم علانيتهم ووكَّل سرائرهم إلى الله تعالى فدخلت المسجد فإذا هو جالس فلما رآني تَبَسَّم تبسُّم المغضب فجئت فجلست بين يديه فقال: ألم تكن قد ابتعت ظهرك قلت: بلى يا رسول الله قال: فما خلّفك؟
قلت: والله لو كنت بين يديّ أجد من الناس غيرك جلست لخرجته من سخطته بعذر ولقد أوتيت جدلاً، ولكن قد علمت يا نبي الله أني أن أخبرك اليوم بقول تجد علي فيه وهو حقّ فإنّي أرجو فيه عفو الله وإن حدّثتك اليوم حديثاً ترضى عني فيه وهو كذب أوشك أن يطلعك الله عليه والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذاً مني حين تخلفت عنك.
فقال صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدقكم الحديث قم حتى يقضي الله فيك.
فقمت فإذا على أثري ناس من قومي فاتبعوني فقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قبل هذا فهلاّ اعتذرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يرضى عنك فيه وكان استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك كافيك من ذنبك ولم تقف نفسك موقفاً ما تدري ماذا يقضي لك به؟ فلم يزالوا يؤنّبوني حتى صمّمت أن أرجع فأُكذب نفسي فقلت: هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا: نعم، قالوا: هلال بن أُمية الواقفي وأبو مرارة بن ربيعة العامري. فذكروا رجلين صالحين قد شهدوا بدراً لي فيهما أُسوة فقلت: والله لا أرجع إليه في هذا أبداً، ولا أكذب نفسي قال: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا (أيها الثلاثة من بين من تخلّف عنه] قال: فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد وتنكّر لنا الناس حتى] ما هم بالذين نعرف، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي الحيطان التي نعرف وتنكرت لنا الأرض حتى ما هي الأرض التي نعرف، [وكنت أقوى أصحابي وكنت أخرج فأطوف بالأسواق وآتي المسجد فأدخل فآتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلّم عليه فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بالسلام، فإذا قمت فأقبلت فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ بمؤخر عينيه وإذا نظرت إليه، واستكان أعرض عني فإستكانا صاحباي فجعلا يبكيان الليل لا يطلعان نفسيهما فلما طال علي ذلك المسلمين من جفوة حتى تسمّرت بظلّة حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ فسلمت عليه فوالله ما ردَّ عليَّ السلام فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمنّ أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدران فبينا أطوف في السوق إذا برجل نصراني نبطي من نبط أهل الشام جاء بطعام له يبيعه ويقول: من سيدلّ على كعب بن مالك. فطفق الناس يشيرون له إليَّ فأتاني فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسّان فإذا فيه: أمّا بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك (ولست بدار مضيعة ولا هوان) فالحق بنا نواسيك، فقلت: هذا من البلاء والشرف فسجّرت التنور فأحرقته فلما مضيت له بغضون ليلة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني فقال: اعتزل امرأتك فقلت: أطلقها. قال: لا ولكن لا تقربها وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال فقالت: يا نبي الله إنَّ هلال بن أُمية شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه قال: نعم ولكن لا يقربك.
قالت: يا نبي الله والله ما به حركة لشيء ما زال مكبّاً يبكي الليل والنهار. قد كان من أمره ما كان. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ماذا يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. فلما مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا فصلّيت على ظهر بيت لمّا صلّى الفجر وجلست وأنا في المنزلة التي قال الله عزّ وجلّ: { إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } وضاقت علينا أنفسنا إذ سمعت نداء من جبل سلع أن أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً وعلمت أن الله قد جاء بالفرج ثم جاء رجل يركض على فرس وكان الصوت أسرع من فرسه [فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي، فكسوتها إياه ببشارته واستعرت ثوبين فلبستهما]قال: وكانت توبتنا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ثلثي الليل فقالت أُم سلمة عشيّتئذ: يا نبي الله ألا تبشر كعب بن مالك. قال: إذا يحطمك الناس ويمنعونكم النوم بسائر الليل وكانت أم سلمة محسنة في شأني حزنى بأمري فاستطلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقام إلي طلحة ابن عبيد الله يهرول حتى صافحني وقال: ليهنك توبة الله عليك، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره وكان كعب لا ينساها لطلحة.
قال كعب: فلمّا سلمت على رسول الله وقلت: يا نبي الله من عند الله أم من عندك؟ قال: بل من عند الله ثم تلا عليهم: { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } إلى قوله { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } وقلت: يا نبي الله إن من توبتي ألاّ أحدث الأصدقاء حتى أنخلع من مالي كلّه صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال: أمسك عليك بعض مالك فهو اخير لك، قلت: فإني أمسك سهمي الذي من خيبر قال: فما أنعم الله عليَّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقته أنا وصاحباي أن لا يكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا وأني لأرجو أن لا يكون الله عزّ وجلّ أبلا أحداً في الصدق [منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما ابتلاني والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا] وأني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقي،"
هذا ما انتهى الينا من حديث الثلاثة الذين خلفوا.
{ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } المفسرون: أي ضاقت عليهم الأرض برمّتها { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } [ضاقت صدورهم بالهمّ والوحشة] { وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ } سمعت الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري وإبراهيم بن محمد بن زيد النيسابوري وعبد الله ختن والي بلد العراق يقول: سُئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح قال: أن تضيق علينا بما رحبت ويضيق عليه نفسه كتوبة كعب وصاحبه { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } إعادة تأكيد ليتوبوا فهذا بالتوبة منه.
سمعت أبا القاسم بن أبي بكر السدوسي، سمعت أبا سعيد أحمد بن محمد بن رميح الزيدي، سمعت الحسن بن علي الدامغاني يقول: قال أبو يزيد: غلطت في أربعة أشياء: في الإبتداء مع الله سبحانه ظننت أني أحبه فإذا هو أحبّني قال الله تعالى:
{ { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54]فظننت أني أرضى عنه فاذا هو رضي عني قال الله تعالى: { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } وظننت أني أذكره فإذا هو ذكرني قال الله تعالى: { { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت: 45] وشئت أن أتوب فإذا هو تاب عليَّ قال الله تعالى: { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيم } { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } قال نافع: يعني مع محمد وأصحابه. سعيد بن جبير: مع أبي بكر وعمر، ابن جريح وابن حبّان: مع المهاجرين دليله قوله تعالى: { { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } [الحشر: 8] إلى قوله { { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } [الحشر: 8].
أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد الله. محمد بن عثمان بن الحسن. محمد بن الحسين ابن صالح. علي بن جعفر بن موسى. جندل بن والق. محمد بن عمر المازني. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } قال: مع عليّ بن أبي طالب وأصحابه.
وأخبرني عبد الله محمد بن عثمان. محمد بن الحسن. علي بن العباس المقانعي. جعفر ابن محمد ابن الحسين. أحمد بن صبيح الأسدي. مفضل بن صالح. عن جابر عن أبي جعفر في قوله تعالى { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } قال: مع آل محمد ( صلى الله عليه وسلم ).
يمان بن رباب: أصدقوا كما صدق الثلاثة الذين خلفوا.
ابن عباس: مع الذين صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك. بإخلاص ونيّة.
قتادة: يعني الصدق في النية وقال: أو الصدق في الليل والنهار والسرّ والعلانية، وكان ابن مسعود يقول: { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } وكذا كان يقرأها، وابن عباس (ورضي عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم).
أخبرنا عبد الله بن حامد. عبد الله بن محمد بن الحسين. محمد بن يحيى، وهب بن جرير عن شعيب بن عمرو بن زيد عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: إن الكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئاً ثم لا ينجز شيئاً اقرأوا إن شئتم الآية { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } هل ترون في الكذب [رخصة] { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ } ظاهره خبر معناه نهي كقوله تعالى:
{ { مَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } [الأحزاب: 53] { وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ } سكان البوادي مزينة وجهينة وأسجح وأسلم وغفار { أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ } إذا غزا { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه.
قال الحسن: يعني لا يرغبون بأنفسهم أن تصيبهم من الشدائد مثل ما يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ } في سفرهم { ظَمَأٌ } عطش، وقرأ عبد بن عمير ظمأ بالمدّ وهما لغتان مثل خطا وخطأ { وَلاَ نَصَبٌ } ولا تعب { وَلاَ مَخْمَصَةٌ } مجاعة { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً } أرضاً { يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ } وطيهم إياها { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً } ولا يصيبون من عدوهم شيئاً قتلا أو أسراً أو غنيمة أو عزيمة يقال: نلت الشيء فهو منيل { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } قال ابن عباس: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنة { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } فإن أصابهم ظمأ سقاهم الله من نهر الحيوان ولا يصيبهم ظمأ بعد، وإن أصابهم نصب أعطاهم الله العسل من نهر الحيوان [ولا يصيبهم] فيهم النصب، ومن خرج في سبيل الله لم يضع قدماً ولا يداً ولا جنباً ولا أنفاً ولا ركبة ساجداً ولا راكعاً ولا ماشياً ولا نائماً في بقعة من بقاع الله إلاّ أذن الله له بالشهادة وبالشفاعة.
واختلفوا في حكم هذه الآية، فقال قتادة: وهذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه خلافه إذا لم يكن للمسلمين اليه ضرورة وحاجة. قال: وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلف سريّة يغزو في سبيل الله لكني لا أجد سعة فانطلق بهم معي ويشق عليَّ أن أدعهم بعدي" .
وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وابن جابر وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: انها لأول هذه الأمة وآخرها.
وقال ابن زيد: هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء فقال: { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } الآية { وَلاَ يُنفِقُونَ } في سبيل الله { نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } ولو علاقة سوط { وَلاَ يَقْطَعُونَ } ولا يتجاوزون { وَادِياً } في مسيرهم مقبلين أو مدبرين { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } يعني آثارهم وخطاهم { لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لهم بالثواب ويدخلهم الجنة بغير حساب.
قال ابن عباس: أخبرنا أبو عمر الفراتي بقراءتي عليه أخبرنا أبو موسى أخبرنا مسدّد عن هارون ابن عبد الله الجمّال أخبرنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسين عن علي ابن أبي طالب وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ومن أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم،ومن غزا بنفسه وأنفق في وجه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم" ثم تلا هذه الآية { { وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } [البقرة: 261].