التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٢٤
-يونس

الدر المصون

قوله تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ }: هذه الجملةُ سِيْقَتْ لتشبيهِ الدنيا بنباتِ الأرض، وقد شَرَحَ الله تعالى وجهَ التشبيه بما ذكر. قال الزمخشري: "وهذا مِنْ/ التشبيهِ المركب، شُبِّهَتْ حالُ الدنيا في سرعةِ تَقَضِّيها وانقراضِ نعيمِها بعد الإِقبال بحالِ نبات الأرض في جَفَافه وذهابه حُطاماً بعدما التفَّ وتكاتَف وزيَّن الأرض بخضرتِه ورفيفه"، قلت: التشبيهُ المركب في اصطلاح البيانيين: إمَّا أن يكون طرفاه مركبين، أي: تشبيه مركب بمركب كقول بشار بن برد:

2578 ـ كان مُثَارَ النَّقْعِ فوقَ رؤوسنا وأسيافَنا ليلٌ تهاوىٰ كواكبُهْ

وذلك أنه يُشَبِّه الهيئةَ الحاصلةَ من هُوِيِّ أجرامٍ مشرقة مستطيلةٍ متناسبةِ المقدارِ متفرقةٍ في جوانبِ شيءٍ مظلم بليلٍ سقطت كواكبُه، وإمَّا أن يكونَ طرفاه مختلفَيْن بالإِفراد والتركيب. وتقسيماتُه في غير هذا الموضوع.
وقوله: { كَمَآءٍ } هو خبرُ المبتدأ، و "أنزلناه" صفةٌ لـ"ماء"، و "من السماء" متعلقٌ بـ"أَنْزلناه" ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من الضمير المنصوب. وقوله: "فاختلطَ به" في هذه الباءِ وجهان، أحدهما: أنها سببيَّةٌ. قال الزمخشري: "فاشتبك بسببه حتى خالط بعضُه بعضاً"، وقال ابن عطية: "وَصَلَتْ فِرْقَةٌ "النباتَ" بقوله: "فاختلط"، أي: اختلط النباتُ بعضُه ببعض بسبب الماء". والثاني: أنها للمصاحبة بمعنى أنَّ الماءَ يجري مجرىٰ الغذاء له فهو مصاحبه. وزعم بعضُهم أن الوقفَ على قولِه: "فاختلط" على أن الفعلَ ضميرٌ عائد على الماء، وتَبْتَدىء { بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } على الابتداء والخبر. والضمير في "به" على هذا يجوز عَوْدُه على الماء، وأن يعود على الاختلاط الذي تضمنَّه الفعل، قاله ابن عطية. قال الشيخ: "الوقف على قوله: "فاختلط" لا يجوزُ، وخاصةً في القرآن لأنه تفكيكٌ للكلام المتصلِ الصحيح والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْز والتعقيد".
قوله: { مِمَّا يَأْكُلُ } فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بـ"اختلط" وبه قال الحوفي. والثاني: أنه حالٌ من "النبات" وبه قال أبو البقاء، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المستقرة، أي: كائناً أو مستقراً ممَّا يأكل. ولو قيل "مِنْ" لبيان الجنس لجاز. وقوله: "حتى" غايةٌ فلا بد لها من شيءٍ مُغَيَّا، والفعلُ الذي قبلها ـ وهو "اختلط" لا يصلح أن يكون مُغَيَّا لقصرِ زمنهِ.
فقيل: ثَمَّ فعل محذوف، أي: لم يزلِ النباتُ ينمو حتى كان كيت وكيت. وقيل: يُتَجَوَّزُ في "فاختلط" بمعنىٰ: فدامَ اختلاطُه حتى كان كيت وكيت. و "إذا" بعد "حتى" هذه تقدَّم التنبيهُ عليها.
قوله: { وَٱزَّيَّنَتْ } قرأ الجمهور "ازَّيَّنَتْ" بوصل الهمزة وتشديد الزاي والياء، والأصلُ "وتَزَيَّنت" فلمَّا أريد إدغامُ التاء في الزاي بعدها قُلبت زاياً وسَكَنَتْ فاجتلبت همزة الوصل لتعذُّر الابتداء بالساكن فصار "ازَّيَّنت" كما ترىٰ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قولِه تعالى:
{ فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [البقرة: 72]. وقرأ أُبَيّ بن كعب وعبد الله وزيدٌ بن علي والأعمش "وتَزَيَّنَتْ" على تَفَعَّلَتْ، وهو الأصلُ المشار إليه. وقرأ سعد ابن أبي وقاص والسلمي وابن يعمر والحسن والشعبي وأبو العالية ونصر بن عاصم وابن هرمز وعيسى الثقفي: "وأَزْيَنَتْ على وزن أَفْعلَتْ وأفْعَل هنا بمعنىٰ صار ذا كذا كأَحُصَدَ الزرعُ وأَغَدَّ البعيرُ، والمعنىٰ: صارت ذا زينة، أي: حَضَرت زينتها وحانَتْ وكان مِنْ حَقِّ الياءِ على هذه القراءة أن تُقْلَبَ ألفاً فيقال: أَزَانَتْ، كأَنَابت فَتُعَلُّ بنقلِ حركتِها إلى الساكن قبلها فتتحرك حينئذ، وينفتح ما قبلَها فتقلب ألفاً كما تقدَّم ذلك في نحو: أقام وأناب، إلا أنها صَحَّتْ شذوذاً كقولِه: "أَغْيَمت السماء، وأَغْيَلَت المرأة"، وقد وَرَدَ ذلك في القرآن نحو: { ٱسْتَحْوَذَ } [المجادلة: 19] وقياسُه استحاذَ كاستقام.
وقرأ أبو عثمان النهدي ـ وعزاه ابن عطية لفرقةٍ غيرِ معينة ـ "وازْيَأَنَّتْ" بهمزة وصل بعدها زايٌ ساكنة،/ بعدها ياءٌ مفتوحة خفيفة، بعدها همزةٌ مفتوحة، بعدها نون مشددة. قالوا: وأصلها: وازيانَّتْ بوزن احَمَارَّت بألف صريحة، ولكنهم كَرِهُوا الجمعَ بين الساكنين فقلبت الألفُ همزةً كقراءة "الضألّين" و "جَأَنْ". وعليه قولهم: "احمأرَّت" بالهمز وأنشد:

2579 ـ ..................... إذا ما الهَواديْ بالعَبيطِ احمأرَّتِ

وقد تقدم لك هذا مشبعاً في أواخر الفاتحة. وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة: "وازْيأنَّتْ" بالأصل المشار إليه، وعزاها ابن عطية لأبي عثمان النهدي. وقرىء "وازَّايَنَتْ" والأصلُ: تزاينت فأدغم.
وقوله: { أَهْلُهَآ }، أي: أهل نباتها. و "أتاها" هو جوابُ "إذا" فهو العاملُ فيها. وقيل: الضميرُ عائد على الزينة. وقيل: على الغَلَّة، أي: القُوت فلا حَذْفَ حينئذ.
و "ليلاً ونهاراً" ظرفان للإِتيان أو للأمر. والجَعْل هنا تصيير. وحصيد: فعيل بمعنى مفعول؛ ولذلك لم يؤنَّثْ بالتاء وإن كان عبارة عن مؤنث كقولهم: امرأة جريح.
قوله: { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً مِنْ مفعول "جَعَلْناها" الأول، وأن تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدر. وقرأ مروان ابن الحكم "تتغَنَّ" بتاءين بزنة تنفَعَّل، ومثله قول الأعشىٰ:

2580 ـ ..................... طويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنّ

وهو بمعنى الإِقامة، وقد تقدَّم تحقيقُه في الأعراف. وقرأ الحسن وقتادة { كأن لم يَغْنَ } بياء الغيبة، وفي هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أن يعودَ على الحصيد لأنه أقرب مذكور.وقيل: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزخرف. وقيل: يعود على النبات أو الزرع الذي قدَّرته مضافاً، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونباتها.
و "بالأمس" المرادُ به الزمن الماضي لا اليوم الذي قبل يومك، فهو كقول زهير:

2581 ـ وأعلمُ علمَ اليومِ والأمسِ قبلَه ولكنني عن عِلْمِ ما في غدٍ عَمِ

لم يَقْصد بها حقائقَها، والفرقُ بين الأَمْسَيْن أن الذي يراد به قبل يومِك مبنيٌّ لتضمُّنه معنى الألف واللام، وهذا مُعْرب تدخل عليه أل ويضاف.
وقوله: { كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ } نعت مصدر محذوف، أي: مثل هذا التفصيل الذي فَصَّلْناه في الماضي نُفَصِّل في المستقبل.