التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٧
-يونس

الدر المصون

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ }: فيه سبعةُ أوجه: أحدُها: "أن يكونَ "والذين" نسقاً على "للذين أحسنوا" أي: للذين أحسنوا الحسنى، واللذين كسبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ بمثلها، فيتعادل التقسيم كقولك: "في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ"، وهذا يسميه النحويون عطفاً على معمولي عاملين. وفيه ثلاثة مذاهب، أحدها: الجواز مطلقاً، وهو قول الفراء. والثاني: المنعُ مطلقاً وهو مذهب سيبويه. والثالث: التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو: "في الدار زيد والحجرةِ عمرو"، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو: "إن زيداً في الدار وعمراً القصر"، أي: وإن عمراً في القصر. وسيبويه وأتباعه يُخَرِّجون ما ورد منه على إضمار الجارِّ كقوله تعالى: { وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ . . . لآيَاتٍ } [الجاثية: 5] بنصب "آيات" في قراءة الأخوين على ما سيأتي، وكقوله:

2585 ـ أكلَّ امرىءٍ تحسبين امرأً ونارٍ توقَّدُ بالليل نارا

وقول الآخر:

2586 ـ أَوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قلباً حُرَّاً بالكلبِ خيراً والحماةِ شَرَّا

وسيأتي لهذا مزيدُ بيان في غضون هذا التصنيف. وممَّن ذهب إلى أن هذا الموصولَ مجرور عطفاً على الموصول قبله ابن عطية وأبو القاسم الزمخشري. الثاني: أن "الذين" مبتدأ، وجزاء سيئة مبتدأ ثانٍ، وخبره "بمثلها"، والباء فيه زائدة، أي: وجزاءُ سيئةٍ مثلها كقوله تعالى: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40]، كما زِيْدَتْ في الخبر كقوله:

2587 ـ فلا تطمعْ ـ أبيت اللعنَ - فيها ومَنْعُكها بشيءٍ يُسْتطاع

أي: شيء يستطاع، كقول امرىء القيس:

2588 ـ فإن تَنْأَ عنها حقبةً لا تلاقِها فإنَّك ممَّا أَحْدَثْتَ بالمجرِّب

أي:المجرِّب، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية. الثالث: أن الباءَ ليست بزائدةٍ والتقدير: مُقَدَّر بمثلها أو مستقر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُه خبرٌ عن الاول. الرابع: أن خبرَ "جزاء سيئة" محذوفٌ، فقدَّره الحوفي بقوله: "لهم جزاء سيئة" قال: ودَلَّ على تقدير "لهم" قوله: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ } حتى تتشاكلَ هذه بهذه. وقدَّره أبو البقاء: جزاء سيئة بمثلها واقع، وهو وخبره أيضاً خبر عن الأول. وعلى هذين التقديرين فالباءُ متعلقةٌ بنفس جزاء، لأن هذه المادةَ تتعدَّى بالباء، قال تعالى: { جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ } [سبأ: 17] { { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } [الإنسان: 12] إلى غير ذلك. فإن قلت: أين الرابطُ ين هذه الجملةِ والموصولِ الذي هو المبتدأ؟، قلت: على تقديرِ الحوفي هو الضميرُ المجرور باللام المقدر خبراً، وعلى تقديرِ أبي البقاء هو الضميرُ المجرور باللام المقدر خبراً، وعلى تقدير أبي البقاء هو محذوف/ تقديرُه: جزاءُ سيئة بمثلها منهم واقعٌ، نحو: "السَّمْن مَنَوان بدرهم" وهو حَذْفٌ مُطَّرد لِما عرفْتَه غيرَ مرة.
الخامس: أن يكونَ الخبرُ الجملةَ المنفية من قوله: { مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ }، ويكون "مِنْ عاصم" إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على النفي، وإمَّا مبتدأً، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه، و "مِنْ" مزيدة فيه على كلا القولين. و "من الله" متعلقٌ بـ"عاصم". وعلى كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فَصَلَ بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ. وفي ذلك خلافٌ عن الفارسي تقدَّم التنبيهُ عليه وما استدلَّ به عليه.
السادس: أن الخبرَ هو الجملةُ التشبيهية من قوله: { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ }، و "كأنما" حرف مكفوف، و "ما" هذه زائدة تسمَّى كافَّةً ومهيِّئة، وتقدَّم ذلك. وعلى هذا الوجه فيكون قد فَصَلَ بين المبتدأ وخبره بثلاثِ جملِ اعتراض.
السابع: أن الخبر هو الجملة من قوله: { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ }، وعلى هذا القولِ فيكونُ قد فصل بأربعِ جمل معترضة وهي: { جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا }، والثانية: "وتَرْهَقُهم ذلة"، والثالث: { مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ }، الرابع: "كأنما أُغْشيت". وينبغي أن لا يجوز الفصل بثلاثِ جملٍ فضلاً عن أربع.
وقوله: { وَتَرْهَقُهُمْ } فيها وجهان أحدهما: أنها في محل نصب على الحال. ولم يُبَيِّنْ أبو البقاء صاحبَها، وصاحبُها هو الموصولُ أو ضميرُه. وفيه ضعفٌ لمباشرته الواو، إلا أن يُجْعَلَ خبرَ مبتدأ محذوف. الثاني: أنها معطوفة على "كسبوا". قال أبو البقاء: "وهو ضعيف لأن المستقبلَ لا يُعْطَفُ على الماضي. فإن قيل: هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً". وقرىء: "ويَرْهقهم" بالياء من تحت، لأنَّ تأنيثَها مجازي.
قوله: { قِطَعاً } قرأ ابن كثير والكسائي "قِطْعاً" بسكون الطاء، والباقون بفتحها. فأما القراءة الأولى فاختلفت عبارات الناس فيها، فقال أهل اللغة: "القِطْع" ظلمة آخر الليل. وقال الأخفش في قوله: "بقِطْع من الليل" بسواد من الليل. وقال بعضهم: "طائف من الليل"، وأنشد الأخفش:

2589 ـ افتحي الباب فانظري في النجومِ كم علينا من قِطْعِ ليلٍ بَهيم

وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ "قِطْعة" نحو: دِمْنة وَدِمَن، وكِسْرة وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب "مظلماً"، فإنه على قراءةِ الكسائي وابن كثير يجوز أن يكونَ نعتاً لـ "قِطْعاً"، ووُصِف بذلك مبالغةً في وَصْف وجوهِهم بالسواد، ويجوز أن يكونَ حالاً فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه حالٌ من "قِطْعاً"، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو "من الليل"، والثاني: أنه حالٌ من "الليل"، والثالث: أنه حالٌ من الضميرِ المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة.
قال الزمخشري: "فإن قلت: إذا جعلت "مظلماً" حالاً من "الليل" فما العاملُ فيه؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكونَ "أُغْشِيَتْ" من قِبل أنَّ "من الليل" صفةٌ لقوله: "قِطْعاً"، وكان إفضاؤه إلى الموصوفِ كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكونَ معنى الفعل في "من الليل". قال الشيخ: "أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصلَ أن يكون العاملُ في الحال هو العاملَ في ذي الحال، والعاملُ في "من الليل" هو الاستقرار، و "أُغْشِيَتْ" عاملٌ في قوله: "قطعاً" الموصوف بقوله: "من الليل" فاختلفا، فلذلك كان الوجهُ الأخير أَوْلى، أي: قطعاً مستقرةً من الليل، أو كائنةً من الليل في حال إظلامه". قلت: ولا يَعْني الزمخشري بقوله: "إنَّ العامل أُغْشِيَتْ" إلا أنَّ الموصوفَ وهو "قِطْعاً" معمول لأُِغْشِيَتْ والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصفة، والصفة هي "من الليل" فهي معمولةٌ لـ"أُغْشِيَتْ"، وهي صاحبةُ الحال، والعاملُ في الحال هو العاملُ في ذي الحال، فجاء من ذلك أنَّ العاملَ في الحال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقةِ. ويجوز أن يكونَ "قِطْعاً" جمع قطعة، أي: اسم جنس، فيجوز حينئذٍ وصفُه بالتذكير نحو: "نَخْلٌ مُنْقَعِر" والتأنيث نحو: "نخل خاوية".
وأمَّا قراءة الباقين فقال مكي وغيره: "إنَّ "مظلماً" حال من "الليل" فقط. ولا يجوز أن يكون صفةً لـ"قِطَعاً"، ولا حالاً منه، ولا من الضمير في "من الليل"، لأنه كان يجب أن يقال فيه: مظلمة". قلت: يَعْنُون أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ، وكذا صاحب الحال فتجب المطابقةُ. وأجاز بعضهم ما منعه هؤلاء وقالوا: جاز ذلك لأنَّه في معنى الكثير، وهذا فيه تعسُّفٌ.
وقرأ أُبَي/ { تَغْشَىٰ وجوهَهم قِطْعٌ } بالرفع، "مظلمٌ". وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلا أنه فتح الطاء. وإذا جَعَلْتَ "مُظْلماً نعتاً لـ"قطعاً"، فتكون قد قَدَّمْتَ النعتَ غير الصريح على الصريح. قال ابن عطية: "فإذا كان نعتاً ـ يعني مظلماً نعتاً لقطع ـ فكان حقه أن يكون قبلَ الجملة، ولكن قد يجيءُ بعد هذا، وتقدير الجملة: قطعاً استقرَّ من الليل مظلماً على نحو قوله:
{ وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [الأنعام: 155]. قال الشيخ: "ولا يتعيَّنُ تقديرُ العاملِ في المجرور بالفعل فيكونُ جملة، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير: قطعاً كائناً من الليل مظلماً". قلت: المحذورُ تقديمُ غيرِ الصريحِ على الصريح ولو كان مقدَّراً بمفرد.
و "قطعاً" منصوبٌ بـ"أُغْشِيَتْ" مفعولاً ثانياً.