التفاسير

< >
عرض

هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٣٠
-يونس

الدر المصون

قوله تعالى: { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ }: في "هنالك" وجهان، الظاهرُ بقاؤه على أصلِه مِنْ دلالته على ظرف المكان، أي: في ذلك الموقفِ الدَّحْض والمكان الدَّهِش. وقيل: هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثله { هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [الأحزاب: 11]، أي: في ذلك الوقت وكقوله:

2593 ـ وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ فهناك يَعْترفون أينَ المَفْزَعُ

وإذا أمكنَ بقاءُ الشيءِ على موضوعِه فهو أَوْلىٰ.
وقرأ الأخَوان "تَتْلو" بتاءَيْن منقوطتين من فوق، أي: تطلُب وتتبَع ما أسلفَتْه مِنْ أعمالها، ومن هذا قوله:

2594 ـ إنَّ المُريبَ يَتْبَع المُريبا كما رأيت الذِّيبَ يتلو الذِّيبا

أي: يَتْبَعه ويَتَطَلَّبه. ويجوز أن يكونَ من التلاوة المتعارفة، أي: تقرأ كلُّ نفسٍ ما عَمِلَتْه مُسَطَّراً في صحف الحفظة لقوله تعالىٰ: { يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49]، وقوله: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ٱقْرَأْ كِتَٰبَك } [الإسراء: 13].
وقرأ الباقون: "تَبْلو" مِن البَلاء وهو الاختبار، أي: يَعْرف عملَها: أخيرٌ هو أم شر. وقرأ عاصم في روايةٍ "نبلو" بالنون والباءِ الموحدة، أي: نختبر نحن. و "كل" منصوب على المفعول به. وقوله: "وما أَسْلَفَتْ" على هذه القراءةِ يحتمل أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض، أي: بما أسْلَفَتْ، فلمَّا سقط الخافض انتصبَ مجرورُه كقوله:

2595 ـ تمرُّون الديار ولم تعوجوا كلامُكمُ عليَّ إذنْ حَرامُ

ويحتمل أن يكونَ منصوباً على البدل من "كل نفس" ويكون من بدلِ الاشتمال. ويجوز أن يكون "نَبْلو" من البلاء وهو العذاب، أي: نُعَذِّبها بسبب ما أَسْلَفَتْ.
و "ما" يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً أو نكرةً موصوفة، والعائدُ محذوفٌ على التقدير/ الأول والآخِر دون الثاني على المشهور.
وقرأ ابن وثاب "ورِدُّوا" بكسر الراء تشبيهاً للعين المضعفة بالمعتلَّة، نحو: "قيل" و "بيع"، ومثله:

2596 ـ وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا ........................

بكسر الحاء، وقد تقدَّم بيانُ ذلك بأوضحَ من هذا.
وقوله: { إِلَى ٱللَّهِ } لا بدَّ من مضاف، أي: إلى جزاء الله، أو موقفِ جزائه. والجمهور على "الحق" جَرَّاً. وقرىء منصوباً على أحد وجهين: إمَّا القطعِ، وأصلُه أنه تابعٌ فقُطع بإضمارِ "أمدح" كقولهم: الحمدُ للَّهِ أهلِ الحمد"، وإمَّا أنه مصدر مؤكد لمضمونِ الجملةِ المتقدمةِ وهو { وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } وإليه نحا الزمخشري، قال: "كقولك: "هذا عبد الله الحق لا الباطل" على التأكيد لقوله { وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ }. وقال مكي: "ويجوز نصبه على المصدر ولم يُقْرأ به"، قلت: كأنه لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة.
وقوله: { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } "ما" تحتمل الأوجه الثلاثة.