التفاسير

< >
عرض

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
٤
-يونس

الدر المصون

قوله تعالى: { وَعْدَ ٱللَّهِ }: منصوبٌ على المصدر المؤكِّدِ، لأنَّ معنىٰ "إليه مَرْجِعُكُمْ": وَعَدَكم بذلك.
وقوله: { حَقّاً } مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبُه مضمر، أي: أَحُقُّ ذلك حقاً. وقيل: انتصب "حقاً" بـ"وَعْدَ" على تقدير "في"، أي: وَعْدَ الله في حق، يعني على التشبيه بالظرف. وقال الأخفش الصغير: "التقدير: وقتَ حق" وأنشد:

2566 ـ أحقاً عبادَ الله أنْ لَسْتُ ذاهباً ولا والِجاً إلا عليَّ رقيبُ

قوله: { إِنَّهُ يَبْدَأُ } الجمهورُ على كسر الهمزة للاستئناف. وقرأ عبد الله وابن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب بفتحها. وفيها تأويلاتٌ، أحدها: أن تكونَ فاعلاً بما نصب "حقاً"، أي: حَقَّ حَقَّاً بَدْءُ الخلق، ثم إعادتُه، كقوله:

2567 ـ أحقاً عبادَ الله أَنْ لستُ جائِياً ............................

البيت. وهو مذهبُ الفراء فإنه قال: "والتقدير: يحقُّ أنه يبدأ الخلق. الثاني: أنه منصوبٌ بالفعل الذي نَصَبَ "وعد الله" أي: وَعَدَ الله تعالى بَدْء الخلق ثم إعادتَه، والمعنىٰ إعادة الخلق بعد بَدْئه. الثالث: أنه على حَذْف لام الجر أي: لأنه، ذكر هذا الأوجهَ الثلاثة الزمخشري وغيره. الرابع: أنه بدلٌ من "وَعْدَ الله" قاله ابن عطية. الخامس: أنه مرفوعٌ بنفس "حقاً" أي: بالمصدر المنون، وهذا إنما يتأتَّىٰ على جَعْل "حقاً" غيرَ مؤكدٍ؛ لأنَّ المصدر المؤكدَ لا عملَ له إلا إذا ناب عن فعلِه، وفيه بحثٌ. السادس: أن يكونَ "حقاً" مشبهاً بالظرف خبراً مقدماً و "أنَّه" في محلِّ رفعٍ مبتدأً مؤخراً كقولهم: أحقاً أنك ذاهب قالوا: تقديره: أفي حقٍ ذهابك.
وقرأ ابن أبي عبلة: "حَقٌّ أنه" برفع [حق] وفتح "أنَّ" على الابتداء والخبر. قال الشيخ: "وكونُ "حق" خبرَ مبتدأ، و "أنه" هو المبتدأ هو الوجه في الإِعراب، كما تقول: "صحيحٌ أنك تخرج" لأن [اسم] "أنَّ"/ معرفة، والذي تقدَّمها في هذا المثال نكرة". قلت: فظاهرُ هذه العبارةِ يُشعر بجواز العكس، وهذا قد ورد في باب "إنَّ" كقوله:

2568 ـ وإن حراماً أن أَسُبَّ مُجاشعاً بآبائيَ الشُّمِّ الكرامِ الخَضَارمِ

وقوله:

2569 ـ وإن شفاءً عَبْرَةٌ أَنْ سَفَحْتُها وهل عند رسمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّل

على جَعْل "أنْ سفحتُها" بدلاً من "عبرة". وقد أخبر في "كان" عن نكرةٍ بمعرفةٍ كقوله:

2570 ـ ................... ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَدَاعا

وقوله:

2571 ـ .................... يكون مزاجَها عَسَلٌ وماءُ

وقال مكي: "وأجاز الفراء رفع "وعد"، يجعله خبراً لـ"مرجعكم". وأجاز رفعَ "وعد" و "حق" على الابتداء والخبر، وهو حسنٌ، ولم يقرأ به أحد". قلت: نعم لم يرفع وعد وحق معاً أحد، وأمَّا رفعُ "حق" وحده فقد تقدم أن ابن أبي عبلة قرأه، وتقدَّم توجيهُه. ولا يجوز أن يكون "وعدَ الله" عاملاً في "أنه" لأنه قد وُصِف بقوله "حقاً" قاله أبو الفتح.
وقرىء "وَعَدَ اللَّهُ" بلفظ الفعل الماضي ورفعِ الجلالة فاعلةً، وعلى هذه يكون "أنه يَبْدَأ" معمولاً له إنْ كان هذا القارىءُ يفتح "أنه".
والجمهور على "يَبْدأُ" بفتح الياء مِنْ بدأ، وابن أبي طلحة "يُبْدِىء" مِنْ أَبْدأ، وبَدَأ وأبدأ بمعنى.
قوله: { لِيَجْزِيَ } متعلق بقوله "ثم يُعيده"، و "بالقسطِ" متعلقٌ بـ"يَجْزي". ويجوز أن يكونَ حالاً: إمَّا من الفاعلِ أو المفعول أي: يَجْزيهم ملتبساً بالقسط أو ملتبسين به. والقِسْط: العدل.
قوله: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والجملةُ بعده [خبره]. الثاني: أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبلَه، وتكونُ الجملةُ بعده مبيِّنَةً لجزائهم. و "شراب" [يجوز أَنْ] يكونَ فاعلاً، وأن يكون مبتدأ، [والأولُ أَوْلَىٰ].
قوله: { بِمَا كَانُواْ } الظاهرُ تعلُّقُه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً، والتقدير: استقر لهم شراب من جهنم وعذاب أليم بما كانوا. وجَوَّز أبو البقاء فيه وجهين ـ ولم يذكر غيرهما ـ الأول: أن يكونَ صفةً أخرىٰ لـ"عذاب". والثاني: أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف، وهذا لا معنىٰ له ولا حاجةَ إلى العُدول عن الأول.