التفاسير

< >
عرض

وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٤٤
-هود

الدر المصون

قوله تعالى: { ٱبْلَعِي }: البَلْع معروفٌ. والفعل منه مكسورُ العين ومفتوحُها: بَلعِ وبَلَع حكاهما الكسائي والفراء. والإِقلاع: الإِمساك، ومنه "أَقْلَعَت الحُمَّىٰ". وقيل: أقلع عن الشيء، أي: تركه وهو قريبٌ من الأول. والغَيْضُ: النقصان وفعله لازم ومتعدٍ، فمِن اللازمِ قولُه تعالىٰ: { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ } [الرعد: 8]، أي: تَنْقُص. وقيل: بل هو هنا متعدٍّ أيضاً وسيأتي، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ؛ لأنه لا يُبنى للمفعول مِنْ غير واسطة حرف جر إلا المتعدي بنفسه.
والجُودِيُّ: جبلٌ بعينه بالمَوْصل. وقيل: بل كل جبل يقال له جُودي ومنه قولُ عمرو بن نفيل:/

2667 ـ سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به وقبلَنا سَبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ

ولا أدري ما في ذلك مِن الدلالة على أنه عامٌّ في كل جبل. وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة بتخفيف "الجُوْدِيْ". قال ابن عطية: "وهما لغتان". والصواب أن يقال: خُفِّفَتْ ياءُ النسب، وإن كان لا يجوزُ ذلك في كلامهم الفاشي.
قوله { بُعْداً } منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدر، أي: وقيل: ابعدوا بُعْداً، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو: جَدْعاً، يُقال: بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك، قال:

2668 ـ يقولون لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونه ولا بُعْدَ إلا ما تُواري الصَّفائحُ

واللام إمَّا [أن] تتعلق بفعل محذوف، ويكون على سبيل البيان كما تقدَّم في نحو "سَقْياً لك ورَعْياً"، وإمَّا أن تتعلقَ بقيل، أي: لأجلهم هذا القولَ.
قال الزمخشري: "ومجيءُ إخبارِه على الفعلِ المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمورَ العظامَ لا تكون إلا بفعلِ قادرٍ وتكوينِ مكوِّنٍ قاهرٍ، وأنَّ فاعلَ هذه الأفعال فاعل واحد لا يُشارَكُ في أفعاله، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره: يا أرضُ ابلعي ماءك، ولا أن يَقْضي ذلك الأمر الهائل إلا هو، ولا أَنْ تَسْتوي السفينة على الجوديِّ وتستقر عليه إلا بتسويته وإقرارِه، ولِما ذَكَرْنا من المعاني والنُّكَت استفصح علماءُ البيان هذه الآيةَ ورقصوا لها رؤوسَهم لا لتجانُس الكلمتين وهما قوله: ابلعي وأقلعي، وذلك وإن كان الكلام لا يخلو مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفَتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ". يعني أن بعض الناس عَدَّ من فصاحة الآية التجانسَ فقال: إن هذا ليس بطائل بالنسبة إلى ما ذكر من المعاني، ولعَمرْي لقد صَدَق.
ولمَّا حكى الشيخ عنه هذا الكلام الرائع لم يكن جزاؤُه عنده إلا "وأكثرُه خَطابة".
وقول الزمخشري "ورقَصوا لها رؤوسهم" يحتمل أن يُريد ما يُحكى أن جماعةً من بلغاء زمانهم اجتمعوا في الموسم بعرفةً وتفرَّقوا على أن يُعارِض كلٌّ منهم شيئاً من القرآن ليروزوا قواهم في الفصاحة، فتفرَّقوا على أن يجتمعوا في القابل ففتح أحدهم ـ قيل هو ابن المقفَّع ـ المصحف فَوَجَد هذه الآية، فكعَّ لها وأَذْعَنَ، وقال: "لا يقدر أحدٌ أن يَصْنَعَ مثلَ هذا".