التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
٨٠
-يوسف

الدر المصون

قوله تعالى: { ٱسْتَيْأَسُواْ }: استفعل هنا بمعنى فَعِل المجرد يقال: يَئِس واستيئس بمعنىً، نحو عَجِب واستعجب، وسَخِر واستخسر. وقال الزمخشري: "وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مَرَّ في "استعصم".
وقرأ البزي عن ابن كثير بخلافٍ عنه "اسْتَاْيَسوا" بألفٍ بعد التاء ثم ياء، وكذلك في هذه السورة: "لا تايَسوا"، إنه لا يايَس (إذا اسْتايَسَ الرسلُ)، وفي الرعد: (أفلم يايَسِ الذين) الخلافُ واحد. فأمَّا قراءةُ العامة فهي الأصل إذ يُقال: يَئِس، فالفاء ياء، والعين همزة، وفيه لغةٌ أخرى وهي القلبُ بتقديم العين على الفاء فيقال: أَيِس، ويدلُّ على ذلك شيئان، أحدُهما: المصدرُ الذي هو اليَأْس. والثاني: أنه لو لم يكنْ مقلوباً لَلَزِم قَلْبُ الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولكنْ مَنَعَ من ذلك كونُ الياء في موضعٍ لا تُعَلَّ فيه ما وقعَتْ موقعَه، وقراءةُ ابن كثير من هذا، ولمَّا قَلَبَ الكلمةَ أَبْدَلَ مِن الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة إذ صارَتْ كهمزة رَأْس وكأس،/ وإنْ لم يكنْ مِنْ أصله قَلْبُ الهمزة الساكنة حرفَ علة، وهذا كما تقدم أنه يقرأ "القرآن" بالألف، وأنه يُحْتمل أنْ يكون نَقَل حركة الهمزة وإن لم يكنْ من أصلِه النقلُ.
وقال أبو شامة ـ بعد أن ذكر هذه الكلماتِ الخمسَ التي وقع فيها الخلافُ ـ : "وكذلك رُسِمَتْ في المصحف" يعني كما قرأها البزي، يعني بألفٍ مكان الياء وبياء مكان الهمزة. وقال أبو عبد اللَّه: "واختلفَتْ هذه الكلمات في الرسم فَرُسِمَ "يابَس"ولا تايَسُوا" بالألف، ورُسِم الباقي بغير ألف" قلت: وهذا هو الصوابُ، وكأنها غَفْلَةٌ حَصَلَتْ من أبي شامة رحمه اللَّه.
قوله: { نَجِيَّاً } حال مِنْ فاعل "خَلَصوا" أي: اعتزلوا في هذه الحالِ، وإنما أُفْرِدَت الحالُ وصاحبُها جَمْعٌ: إمَّا لأنَّ النَّجِيَّ فَعِيل بمعنى مُفاعِل كالعشير والخليط بمعنى المُخالطِ والمُعاشِر، كقوله:
{ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [مريم: 52] أي: مُناجِياً، وهذا في الاستعمال يُفْرَدُ مطلقاً، يقال: هم خليطُكَ وعَشيرُكَ أي: مُخالِطوك ومُعاشِروك، وإمَّا لأنَّه صفةٌ على فَعِيل بمنزلة صَديق، وصديق وبابُه يُوحَّدُ لأنه بزِنَةِ المصادر كالصَّهيل والوَجيب والذَّمِيل، وإمَّا لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل: النجوىٰ بمعناه، قال تعالىٰ: { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } [الإسراء: 47]، وحينئذ يكون فيه التأويلاتُ المذكورةُ في "رجل عَدْل" وبابه، ويُجمع على "أَنْجيَة"، وكان مِنْ حَقِّه إذا جُعِل وصفاً أن يُجْمع على أفْعِلاء كغَنِيّ وأَغْنِياء وشَقِيّ وأَشْقِياء. ومِنْ مجيئه على أَنْجية قولُ الشاعر:

2816 ـ إنِّي إذا ما القومُ كانوا أَنْجِيَهْ

وقول الآخر ـ وهو لبيد ـ:

2817 ـ وشَهِدْتُ أَنْجِيَةَ الأَفَاقةِ عالياً كَعْبي وأَرْدَافُ المُلوكِ شُهودُ

وجَمْعُه كذلك يُقَوِّي كونَه جامداً، إذ يصير كرغيف وأَرْغِفَة.
قوله: { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ } في هذه الآيةِ وجوهٌ ستة، أحدها: ـ وهو الأظهر ـ أنَّ "ما" مزيدةٌ، فيتعلَّقُ الظرفُ بالفعل بعدها، والتقدير: ومِنْ قبلِ هذا فَرَّطْتم، أي: قَصَّرْتُمْ في حَقِّ يوسف وشأنِه، وزيادةُ "ما" كثيرةٌ، وبه بدأ الزمخشري وغيرُه.
الثاني: أن تكونَ "ما" مصدريةً في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ الظرف المتقدم. قال الزمخشري: "على أنَّ محلَّ المصدرِ الرفعُ بالابتداء، والخبرُ الظرفُ، وهو "مِنْ قبل"، والمعنىٰ: وقع مِنْ قَبْل تفريطكم في يوسف، وإلى هذا نحا ابنُ عطية أيضاً فإنه قال: "ولا يجوز أن يكونَ قوله "مِنْ قَبلُ" متعلقاً بـ"ما فَرَّطْتُمْ"، وإنما تكونُ على هذا مصدريةً، والتقدير: مِنْ قبلُ تفريطُكم في يوسف واقعٌ أو مستقرٌ، وبهذا المقدرِ يتعلَّقُ قولُه "مِنْ قبل". قال الشيخ: "وهذا وقولُ الزمخشري راجعان إلى معنىٰ واحد وهو أنَّ "ما فَرَّطْتُمْ" يُقَّدرُ بمصدرٍ مرفوعٍ بالابتداء، و "مِنْ قبل" في موضعِ الخبرِ، وذَهِلا عن قاعدةٍ عربية ـ وحُقَّ لهما أن يَذْهَلا ـ وهو أن هذه الظروفَ التي هي غاياتُ إذا بُنِيَتْ لا تقع أخباراً للمبتدأ جَرَّتْ أو لم تجرَّ تقول: "يومُ السبت مباركٌ، والسفر بعده"، ولا تقول: "والسفر بعدُ، وعمرو وزيد خلفَه"، ولا يجوز: "زيد وعمرو خلفُ" وعلى ما ذكراه يكون "تفريطكم" مبتدأً، و "من قبل" خبر [وهو مبني] وذلك لا يجوز، وهو مقرر في علم العربية".
قلت: قوله "وحُقَّ لهما أن يَذْهلا" تحاملٌ على هذين الرجلين المعروفِ موضعُهما من العلم. وأمَّا قولُه "إنَّ الظرف المقطوعَ لا يقع خبراً فمُسَلَّمٌ، قالوا لأنه لا يفيد، وما لا يفيد فلا يقع خبراً، ولذا لا يقع صلةً ولا صفةً ولا حالاً، لو قلت: "جاء الذي قبلُ"، أو "مررت برجل قبلُ" لم يجز لِما ذكرت. ولقائلٍ أن يقولَ: إنما امتنع ذلك لعدمِ الفائدة، وعدمُ الفائدة لعدمِ العلمِ بالمضاف إليه المحذوف، فينبغي ـ إذا كان المضاف إليه معلوماً مَدْلولاً عليه ـ أن يقع ذلك الظرفُ المضافُ إلى ذلك المحذوفِ خبراً وصفةً وصلةً وحالاً، والآيةُ الكريمة من هذا القبيل، أعني ممَّا عُلِم فيه المضافُ إليه كما مرَّ تقريره. ثم هذا الردُّ الذي رَدَّ به الشيخ سبقه إليه أبو البقاء فقال: "وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ "قبل" إذا وقعت خبراً أو صلة لا تُقْطع عن الإِضافة لئلا تبقىٰ ناقصة".
الثالث: أنَّها مصدريةٌ أيضاً في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر هو قولُه: "في يوسف"، أي: وتفريطكم كائن أو مستقر في يوسف، وإلى هذا ذهب الفارسي، كأنه اسْتَشْعر أن الظرفَ المقطوعَ/ لا يقع خبراً فعدل إلى هذا، وفيه نظر؛ لأنَّ السياقَ والمعنى يجريان إلى تعلُّق "في يوسف" بـ"فَرَّطْتُم" فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقَطْعِه عنه.
الرابع: أنها مصدريةٌ أيضاً، ولكن محلَّها النصبُ على أنها منسوقةٌ على { أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ }، أي: ألم تعلموا أَخْذَ أبيكم الميثاقَ وتفريطكَم في يوسف. قال الزمخشري: "كأنه قيل: ألم تعلموا أخْذَ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطَكم مِنْ قبلُ في يوسف". وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً.
قال الشيخ: "وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد، لأنَّ فيه الفصلَ بالجارِّ والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرفٍ واحد وبين المعطوف، فصار نظير: "ضربتُ زيداً وبسيفٍ عمراً"، وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر". قلت: "هذا الردُّ أيضاً سبقه إليه أبو البقاء ولم يَرْتَضِه وقال: "وقيل: هو ضعيف لأنَّ فيه الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف، وقد بَيَّنَّا في سورة النساء أنَّ هذا ليس بشيء". قلت: يعني أنَّ مَنْعَ الفصل بين حرف العطف والمعطوف ليس بشيء، وقد تقدَّم إيضاح ذلك وتقريرُه في سورة النساء كما أشار إليه أبو البقاء.
ثم قال الشيخ: "وأمَّا تقديرُ الزمخشري "وتفريطكم من قبل في يوسف" فلا يجوزُ لأنَّ فيه تقديمَ معمولِ المصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري والفعل عليه، وهو لا يجوز". قلت: ليس في تقدير الزمخشري شيءٌ من ذلك؛ لأنه لَمَّا صَرَّح بالمقدَّر أخَّر الجارَّيْن والمجرورَيْن عن لفظِ المصدر المقدر كما ترىٰ، وكذا هو في سائر النسخ، وكذا ما نقله الشيخ عنه بخطه، فأين تقديم المعمول على المصدر؟ ولو رَدَّ عليه وعلى ابن عطية بأنه يلزم مِنْ ذلك تقديمُ معمولِ الصلة على الموصول لكان رَدَّاً واضحاً، فإنَّ "من قبلُ" متعلقٌ بفَرَّطْتُم، وقد تقدم على "ما" المصدرية، وفيه خلافٌ مشهور.
الخامس: أن تكونَ مصدريةً أيضاً، ومحلُّها نصبٌ عطفاً على اسم "أنَّ"، أي: ألم تعلموا أنَّ أباكم وأنَّ تفريطكم من قبل في يوسف، وحينئذٍ يكون في خبر "أنَّ" هذه المقدرة وجهان، أحدهما وهو "من قبلُ"، والثاني هو "في يوسف"، واختاره أبو البقاء، وقد تقدَّم ما في كلٍ منهما. ويُرَدُّ على هذا الوجه الخامسِ بما رُدَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف والمعطوف وقد عُرِف ما فيه.
السادس: أن تكونَ موصولةً اسميةً، ومحلُّها الرفع أو النَصبُ على ما تقدَّم في المصدرية، قال الزمخشري: "بمعنىٰ: ومِنْ قبل هذا ما فرَّطتموه، أي: قَدَّمتموه في حَقِّ يوسف من الجناية، ومحلُّها الرفع أو النصب على الوجهين". قلت: يعني بالوجهين رفعَها بالابتداء وخبرها "من قبل"، ونصبَها عطفاً على مفعول "ألم تعلموا"، فإنه لم يَذْكر في المصدرية غيرَهما. وقد عرْفْتَ ما اعتُرِض به عليهما وما قيل في جوابه. فتحصَّل في "ما" ثلاثة أوجه: الزيادةُ، وكونُها مصدريةً، أو بمعنى الذي، وأنَّ في محلِّها وجهين: الرفعَ أو النصبَ، وقد تقدم تفصيلُ ذلك كلِّه.
قوله: { فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ } "بَرِحَ" هنا تامة ضُمِّنت معنى "أفارق" فـ"الأرض" مفعولٌ به، ولا يجوز أن تكون تامةً من غيرِ تضمين، لأنها إذا كانت كذلك كان معناها ظهر أو ذهب، ومنه "بَرِح الخَفاء"، أي: ظهر أو ذهب ومعنى الظهور لا يليق، والذهابُ لا يَصِلُ إلى الظرف المخصوص إلا بواسطة "في" تقول: ذهبت في الأرض، ولا يجوز: ذهبت الأرض، وقد جاء شيءٌ لا يُقاس عليه. وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونَ ظرفاً". قلت: ويحتمل أن يكونَ سقط من النسخ لفظةُ "لا"، وكان: "ولا يجوز أن تكون ظرفاً".
واعلمْ أنه لا يجوز في "أبرح" هنا أن تكونَ ناقصة لأنه لا يَنْتَظِم من الضمير الذي فيها ومن "الأرض" مبتدأ أو خبر، ألا ترى أنك لو قلت: "أنا الأرض" لم يَجُزْ من غير "في"؛ بخلاف "أنا في الأرض" و "زيد في الأرض".
قوله: { أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ } في نصبه وجهان، أحدهما: ـ وهو/ الظاهر ـ عَطْفُه على "يَأْذَن". والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار "أنْ" في جواب النفي وهو قوله "فلن أبرح"، أي: لن أبرحَ الأرضَ إلا أَنْ يَحْكُم كقولهم: "لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيني حقي"، أي: إلا أن تقضيني. قال الشيخ: "ومعناه ومعنىٰ الغاية متقاربان". قلت: وليس المعنى على الثاني، بل سياقُ المعنى على عطفِه على "يَأْذن" فإنه غَيَّىٰ الأمرَ بغايتين، أحدهما خاصة، وهي إِذْن اللَّه، والثانية عامة؛ لأن إذْنَ اللَّهِ له في الانصراف هو مِنْ حكم اللَّه.