التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٢
-إبراهيم

الدر المصون

قوله تعالى: { وَعْدَ ٱلْحَقِّ }: يجوز أن يكونَ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه، أي: الوعد الحق، وأن يرادَ بالحق صفةُ الباري تعالى، أي: وَعَدَكم الله وَعْدَه، وأن يراد بالحقِّ البعثُ والجزاءُ على الإِجمال، فتكونَ إضافةً صريحةً.
قوله: { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } فيه وجهان، أظهرُهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنَّ دعاءَه ليس من جنسِ السلطانِ وهو الحُجَّةُ البيِّنَةُ. والثاني: أنه متصلٌ، لأنَّ القدرةَ على حَمْلِ الإنسانِ على الشرِّ تارةً تكون بالقَهْرِ، وتارةً تكون بقوة الداعية في قلبه، وذلك بالوسوسة إليه فهو نوعٌ من التسلُّطِ.
وقُرِئَ "فلا يَلُوْموني" بالياء من تحتُ على الالتفاتِ، كقولِه:
{ { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس: 22].
قوله: { بِمُصْرِخِيَّ } العامَّةُ على فتحِ الياءِ؛ لأنَّ الياءَ المدغمَ فيها تُفْتَحُ أبداً لا سيما وقبلها كسرٌ ثانٍ. وقرأ حمزةُ بكسرِها، وهي لغةُ بني يَرْبوع. وقد اضطربت أقوالُ الناس في هذه القراءةِ اضطراباً شديداً: فمِنْ مُجْتَرِئٍ عليها مُلَحِّنٍ لقارئها، ومِنْ مُجَوِّزٍ لها من غير ِ ضعفٍ، ومِنْ مجوِّزٍ لها بضعفٍ.
قال حسين الجعفي: "سألتُ أبا عمروٍ عن كسرِ الياءِ فأجازه". وهذه الحكايةُ تُحكى عنه بطرقٍ كثيرة، منها ما تقدَّم، ومنها: "سألت أبا عمروٍ وقلت: إن أصحابَ النحوِ يُلْحِّنُوننا فيها فقال: هي جائزة أيضاً، إنما أراد تحريك الياء، فلستَ تبالي إذا حَرَّكْتَها إلى أسفلَ أم إلى فوقُ". وعنه: مَنْ شاء فتحَ، ومَنْ شاء كسر، ومنها أنه قال: إنها بالخفضِ حسنةٌ. وعنه قال: قَدِم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألتُه عن القرآن فوجدْتُه به عالماً، فسألتُه عن شيء [مِنْ] قراءة الأعمش واستشعرتُه { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } بالجرِّ فقال: هي جائزةٌ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمشُ أَخَذْتُ بها.
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمروٍ تحسينَه لهذه القراءةِ، ولا التفاتَ إليه لأنه عَلَمٌ من اعلامِ القرآن واللغةِ والنحوِ، واطَّلع على ما لم يطَّلع عليه [مَنْ فوقَ السجستاني]:

2877- وابنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ لم يستطعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القناعيسِ

ثم ذكر العلماءُ في ذلك توجيهات: منها أنَّ الكسرَ على أصلِ التقاءِ الساكنين، وذلك أنَّ/ ياءَ الإِعرابِ ساكنةٌ، وياءَ المتكلمِ أصلُها السكونُ، فلمَّا التقيا كُسِرَتْ لالتقاء الساكنين. الثاني: أنها تُشْبِهُ هاءَ الضميرِ في أنَّ كلاًّ منهما ضميرٌ على حرف واحد، وهاءُ الضميرِ تُوْصَلُ بواوٍ إذا كانت مضمومةً، وبياءٍ إذا كانت مكسورة، وتُكْسَرُ بعد الكسرةِ والياءِ الساكنة، فَتُكْسَرُ كما تُكْسَرُ الهاءُ في "عليْهِ"، وبنو يربوعٍ يَصِلونها بياءٍ، كما يَصِل ابن كثير نحو: "عليهي" بياء، فحمزةُ كسرَ هذه الياءَ من غير صلةٍ، إذ أصلُه يقتضي عدَمها. وزعم قطرب أيضاً أنها لغةُ بني يربوع، قال: يزيدون على ياء الإِضافة ياءً، وأنشد:

2878- ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضِيِّ قال لها: هل لكِ ياتا فِيَّ

أنشده الفراء وقال: "فإنْ يَكُ ذلك صحيحاً فهو ممَّا يلتقي من الساكنين". وقال أبو عليّ: "قال الفراء في كتاب "التصريف" له: زعم القاسم بن معن أنه صوابٌ، وكان ثقةً بصيراً".
ومِمَّن طعن عليها أبو إسحاقَ قال: "هذه القراءةُ عند جميعِ النحويين رديئةٌ مَرْذُوْلَةٌ ولا وجهَ لها إلا وجهٌ ضعيفٌ". وقال أبو جعفر: "صار هذا إدغاماً، ولا يجوز أن يُحْمل كتابُ اللهِ تعالى على الشذوذ". وقال الزمخشري: "هي ضعيفةٌ، واستشهدوا لها ببيتٍ مجهول:

2879- قال لها: هل لكِ ياتا فِيَّ قالت له: ما أنت بالمَرْضِيِّ

وكأنه قدَّر ياء الإِضافة ساكنةً، وقبلها ياءٌ ساكنة، فحرَّكها بالكسر لِما عليه أصلُ التقاءِ الساكنين، ولكنه غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ ياءَ الإِضافةِ لا تكونُ إلا مفتوحةً حيث قَبْلها ألفٌ نحو: "عصايَ" فما بالُها وقبلَها ياءٌ؟ فإن قلتَ: جَرَتِ الياءُ الأولى مَجْرى الحرفِ الصحيح لأجل الإِدغامِ فكأنها ياءٌ وقعَتْ [ساكنةً" بعد حرفٍ صحيحٍ ساكنٍ فَحُرِّكَتْ بالكسرِ على الأصل. قلت: هذا قياسٌ حسنٌ، ولكن الاستعمالَ المستفيضَ الذي هو بمنزلةِ الخبرِ المتواترِ تتضاءلُ إليه القياساتُ".
قال الشيخ: "أمَّا قولُه "واستشهدوا لها ببيتٍ مجهولٍ، فقد ذكر غيرُهُ أنه للأغلبِ العجليّ، وهي لغةٌ باقيةٌ في أفواهِ كثيرٍ من الناس إلى اليوم يقولون: "ما فِيَّ أفعلُ" بكسر الياء". قلت: الذي ذكر صاحبَ هذا الرجزِ هو الشيخُ أبو شامةَ، قال: "ورأيتُه أنا في أول ديوانِه، وأولُ هذا الرجز:

2880- أقبل في ثَوْبٍ مَعافِرِيِّ عند اختلاط الليلِ والعَشيِّ

ثم قال الشيخ: "وأمَّا التوجيهُ الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عنه الزجَّاج. وأمَّا قولُه في غضونِ كلامِه "حيث قبلها ألفٌ" فلا أعلم "حيث" تضاف إلى الجملةِ المصدرةِ بالظرف نحو: "قعد زيد حيث أمام عمروٍ بكر" فيحتاج هذا التركيب إلى سماعٍ" قلت: إطلاقُ النحاةِ قولَهم: إنها تضافُ إلى الجملِ كافٍ في هذا، ولا يُحتاج [إلى] تَتَبُّع كلِّ فردٍ فردٍ، مع إطلاقِهم القوانينَ الكلية.
ثم قال: وأمَّا قولُه "ياء الإِضافةِ إلا آخره" قد رُوي سكونُ الياءِ بعد الألف، وقد قرأ بذلك القراءُ نحو "محياْيْ". قلت: مجيءُ السكون في هذه الياءِ لا يُفيده ههنا، وإنما كان يفيده لو جاء بها مكسورةً بعد الألف فإنه مَحَلُّ البحثِ. وأنشد النحاة بين الذبياني بالكسرِ والفتحِ، وهو قوله:

2881- عليَّ لِعمروٍ نِعْمةٌ بعد نعمةٍ لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقارِبِ

وقال الفراء في كتاب "المعاني" له: "وقد خَفَضَ الياء مِنْ "بمُصْرِخِيِّ" الأعمشُ ويحيى بنُ وثاب جميعاً، حدَّثني بذلك القاسمُ بن مَعْن عن الأعمش، ولعلها مِنْ وَهْم القرَّاء، فإنه قَلَّ مَنْ سَلِمَ منهم مِنَ الوَهْمِ، ولعله ظنَّ أن الباءَ في "بمُضْرِخِيَّ" خافضةٌ للفظِ كلِّه، والياءُ للمتكلم خارجةٌ من ذلك". قال: "ومما نرى أنهم وَهِمُوا فيه قوله: { نُوَلِّهْ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهْ جَهَنَّمَ } بالجزم في الهاء". ثم ذكر غيرَ ذلك.
وقال أبو عبيد: "أمَّا الخفضُ فإنَّا نراه غلطاً، لأنهم ظنُّوا أن الباءَ تُكْسِرُ كلَّ ما بعدها، وقد كان في القرَّاء مَنْ يجعله لحناً، ولا أحبُّ أن أبلغَ به هذا كلِّه، ولكنَّ وجهَ القراءةِ عندنا غيرُها".
قال الأخفش: "ما سَمِعْتُ بهذا مِنْ أحد من العرب ولا من أحدٍ من النحويين". قال النحاس: "فصار هذا إجماعاً".
قلت: ولا إجماعَ. فقد تقدَّم ما حكاه الناسُ من أنها لغةٌ ثانيةٌ لبعضِ العربِ. وقد انتدب لنُصرةِ هذه القراءة أبو عليٍّ الفارسيّ، قال في "حُجَّته". "وجهُ ذلك أن الياءَ ليسَتْ تخلُو مِنْ أَنْ تكونَ في موضعِ نصبٍ أو جرّ، فالياءُ في النصبِ والجرِّ كالهاء فيهما، وكالكاف في "أكرمتُك" و "هذا لك"، فكما أنَّ الهاءَ قد لحقَتْها الزيادةُ في هذا: لهُوْ، وضَرَبَهُوْ، / ولحقَ الكاف أيضاً الزيادةُ في قولِ مَنْ قال "أَعْطَيْتُكاه" و "أَعْطَيْتُكِيْه" فيما حكاه سيبويه، وهما أختا الياء، ولحقت التاءَ الزيادةُ في قول الشاعر:

2882- رَمَيْتِيْهِ فَأَصْمَيْتِ وما أَخْطَأْتِ [في] الرَّمْيَهْ

كذلك ألحقوا الياءَ الزيادةَ مِن المدِّ فقالوا: "فِيَّ"، ثم حُذِفَتْ الياءُ الزائدةُ على الياءِ كما حُذِفَتِ الزيادةُ مِن الهاء في قولِ مَنْ قال:

2883- ......................... ............. لَهْ أَرِقانِ

وزعم أبو الحسنِ أنها لغةٌ".
قلت: مرادُ أبي عليٍّ بالتنظير بالبيت في قولِه: "لَهْ أَرِقان" حَذْفُ الصلةِ، واتفق أن في البيت أيضاً حَذْفَ الحركةِ، ولو مَثَّل بنحو "عليهِ" و "فيهِ" لكن أولى.
ثم قال الفارسيُّ: "كما حُذِفَتْ الزيادةُ من الكاف فقيل: أعطيتكَهُ وأَعْطَيْتُكِهِ، كذلك حُذِفت الياءُ اللاحقةُ للياء كما حُذِفَتْ من أُخْتَيْها، وأُقِرَّتْ الكسرةُ التي كانت تلي الياء المحذوفةَ فبقيت الياءُ على ما كانت عليه من الكسرِ". قال: "فإذا كانت الكسرةُ في الياء على هذه اللغةِ - وإن كان غيرُها أَفْشى منها، وعَضَدَه مِن القياسِ ما ذكرناه ـ لم يَجُزْ لقائلٍ أن يقول: إن القراءةَ بذلك لحنٌ لاستقامةِ ذلك في السماعِ والقياسِ، وما كان كذلك لا يكون لحناً".
قلت: وهذا التوجيهُ هو توضيحٌ للتوجيه الثاني الذي قدَّمْتُ ذِكْرَه. وأما التوجيهُ الأولُ فأوضحه الفراءُ أيضاً، قال الزجاج: "أجاز الفراء على وجهٍ ضعيفٍ الكسرَ لأنَّ أصلَ التقاءِ الساكنين الكسرُ". قال الفراء: "ألا ترى أنهم يقولون: مُذُ اليومِ، ومُذِ اليوم، والرفعُ في الذال هو الوجهُ، لأنه أصلُ حركةِ "منذ"، والخفضُ جائزٌ، فكذلك الياءُ من "مُصْرِخيَّ" خُفِضَتْ ولها أصلٌ في النصب".
قلت: تشبيهُ الفراءِ المسألةَ بـ "مذ اليوم" فيه نظر؛ لأنَّ الحرفَ الأولَ صحيحٌ، ولم يتوالَ قبله كَسْرٌ بخلافِ ما نحن فيه، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ بقوله فيما قدَّمْتُه عنه: "فكأنها وقعَتْ بعد حرفٍ صحيح". وقد اضطرب النقلُ عن الفراء في هذه المسألةِ كما رأيْتَ" مِنْ نَقْلِ بعضِهم عنه التخطئةَ مرةً، والتصويبَ أخرى، ولعل الأمرَ كذلك، فإنَّ العلماءَ يُسأَلُونَ فيُجيبون بما يَحْضُرهم حالَ السؤالِ وهي محتلفةٌ.
التوجيهُ الثالث: أنَّ الكسرَ للإِتباع لِما بعدها، وهو كسرُ الهمزِ من "إنِّي" كقراءةِ "الحمدِ لله"، وقولهم" بِعِير وشِعِير وشِهيد، بكسر أوائِلها إتباعاً لما بعدها، وهو ضعيفٌ جداً.
التوجيه الرابع: أنَّ المسوِّغ لهذا الكسرِ في الياء وإن كان مستثقلاً أنَّها لَمَّا أُدْغِمَتْ فيها التي قبلها قَوِيَتْ بالإِدغام، فأشبهتِ الحروفَ الصِّحاحَ فاحتملتِ الكسرَ؛ لأنه إنما يُسْتَثْقَلُ فيها إذا خَفَّتْ وانكسر ما قبلها، ألا ترى أن حركاتِ الإِعرابِ تجري على المشدِّدِ وما ذاك إلاَّ لإِلحاقِه بالحروفِ الصِّحاح.
والمُصْرِخُ: المُغِيْث يُقال: اسْتَصْرَخْتُه فَأَصْرَخَني، أي: أعانني، وكأنَّ همزتَه للسَّلْب، أي: أزال صُراخي. والصَّارخ هو المستغيثُ. قال الشاعر:

2884- ولا تَجْزَعوا إني لكمْ غيرُ مُصْرِخٍ وليس لكم عندي غَناءٌ ولا نَصْرُ

ويُقال: صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخاً وصُراخاً وصَرْخَة. قال:

2885- كنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ كان الصُّراخُ له قَرْعَ الظَّنابيبِ

يريد: كان بدل الإِصراخ، فحذف المضافَ، أقام مصدرَ الثلاثي مُقام مصدرِ الرباعي نحو: { { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17].
والصَّريْخُ: القومُ المُسْتَصْرِخُونَ قال:

2886- قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ ما بين مُلْجِمِ مُهْرِهِ أو سافِِعِ

والصَّريخُ أيضاً: المُغِيثون فهو من الأضداد، وهو محتملٌ أَنْ يكون وَصْفاً على فَعِيْل كالخَليط، وأن يكونَ مصدراً في الأصل. وقال: { { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } [يس: 43] فهذا يُحتمل أن يكونَ مصدراً، وأن يكونَ فعيلاً بمعنى المُفْعِل، أي: فلا مُصْرِخَ لهم، أي: ناصر، وتَصَرَّخ: تكلَّف الصُّراخ.
قوله: { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ } يجوزُ في "ما" وجهان: أحدُهما: أَنْ تكونَ بمعنى الذي. ثم في المراد بهذا الموصولِ وجهان، أحدُهما: أنه الأصنامُ، تقديرُه: بالصنمِ الذي أطعتموني كما أَطَعْتُمُوه، كذا قال أبو البقاء، والعائدُ محذوفٌ، فقدَّره أبو البقاء: بما أشركتموني به، ثم حُذِفَ، يعني بعد حذف الجارِّ ووصولِ/ الفعلِ إليه، ولا حاجةَ إلى تقديرِه مجروراً بالباء؛ لأنَّ هذا الفعلَ متعدٍّ لواحدٍ نحو: شَرَكْتُ زيداً، فلمَّا دَخَلَتْ همزةُ النقل أَكْسَبته ثانياً هو العائد، تقول: أَشْرَكْتُ زيداً عمراً، جعلتُه شريكاً له. الثاني: أنه الباري تعالى، أي: بما أشركتموني، أي: بالله تعالى، والكلامُ في العائدِ كما تقدَّم، إلا أنَّ فيه إيقاعَ "ما" على مَنْ يَعْلَمُ، والمشهورُ فيها أنها لغير العاقل.
قال الزمخشريُّ: "ونحو: "ما" هذه "ما" في قولهم" سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ"، ومعنى إشراكهم الشيطانَ بالله تعالى طاعتُهم له فيما كان يُزَيِّنُه لهم مِنْ عبادةِ الأوثانِ". قال الشيخ: "ومن مَنَع ذلك جَعَل "سبحان" عَلَماً للتسبيح كما جعل "بَرَّة" عَلَماً للمَبَرَّة، و "ما" مصدرية ظرفية"، أي: فيكون على حذفِ مضافٍ، أي: سبحانَ صاحبِ تسخيرِكنَّ؛ لأنَّ التسبيحَ لا يليقُ إلاَّ بالله.
الثاني من الوجهين الأولين: أنها مصدريةٌ، أي: بإشراككم إياي.
قوله: { مِن قَبْلُ } متعلِّقٌ بـ "كَفَرْتُ" على القولِ الأول، أي: كفرتُ مِنْ قبلُ، حين أَبَيْتُ السجودَ لآدمَ بالذي أشركتمونيه وهو اللهُ تعالى، و بـ "أشركْتُ" على الثاني، أي: كفرتُ اليومَ بإشراكِكم إيَّاي مِنْ قبلِ هذا اليوم، أي في الدنيا، كقوله:
{ { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ } [فاطر: 14] هذا قولُ الزمخشريِّ. وأمَّا أبو البقاء فإنه جَوَّز تعلُّقَه بكفرْتُ وبأشركتموني، من غير ترتيبِ على كون "ما" مصدريةً أو موصولية فقال: "ومِنْ قبلُ: متعلِّقٌ بأشركتموني، أي: كفرْتُ الآن أَشْرَكتموني مِنْ قبل. وقيل: وهي متعلِّقةٌ بـ "كفرتُ" أي: كَفَرْتُ مِنْ قبلِ إشراكِكم فلا أنفعُكم شيئاً".
وقرأ أبو عمروٍ وبإثباتِ الياء في "أشركتموني" وصْلاً وحَذْفِها وقفاً، وحَذَفها الباقون وصلاً ووقفاً.
وهنا تمَّ كلامُ الشيطان. وقوله: { إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ } مِنْ كلامِ الله تعالى، ويجوز أن يكونَ مِنْ كلامِ الشيطان. و "عذاب" يجوز رَفْعُه بالجارِّ قبلَه على أنه الخبر، وعلى الابتداءِ وخبرُه الجارُّ.