التفاسير

< >
عرض

رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ
٣٧
-إبراهيم

الدر المصون

قوله تعالى: { مِن ذُرِّيَّتِي }: يجوزُ أَنْ يكون المفعولُ محذوفاً، وهذا الجارُّ صفتُه، أي: أسكنْتُ ذريةً مِنْ ذريتي. ويجوز أن تكونَ "مِنْ" مزيدةً عند الأخفش.
قوله: "بوادٍ"، أي: في وادٍ، نحو: هو بمكة.
قوله: { عِندَ بَيْتِكَ } يجوز أن يكونَ صفةً لـ "وادٍ". وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونَ بدلاً منه"، يعني أنه يكونُ بدلَ بعضٍ مِنْ كُلّ، لأنَّ الواديَ أعمُّ مِنْ حضرةِ البيت. وفيه نظرٌ، من حيث إنَّ "عند" لا تتصرَّف.
قوله: "ليُقِيموا" يجوز أَنْ تكونَ هذه اللامُ لامَ أمرٍ، وأن تكونَ لامَ علَّة. وفي متعلقها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أنها متعلقةٌ بأَسْكنْتُ وهو ظاهرٌ، ويكون النداءُ معترضاً. الثاني: أنها متعلقةٌ باجْنُبْني، أي: اجْنُبْهم الأصْنامَ ليُقِيموا، وفيه بُعْدٌ.
قوله: { أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ } العامَّةُ على "أفْئِدة" جمع "فُؤاد" كغُراب وأَغْربة. وقرأ هشام عن ابن عامر بياءٍ بعد الهمزة، فقيل: إشباع، كقوله:

2895- ........................ يُحِبَّك عَظْمٌ في الترابِ تَرِيْبُ

أي: تَرِب، وكقوله:

2896- أعوذُ باللهِ مِنَ العَقْرابِ الشائلاتِ عُقدَ الأَذْنابِ

وقد طعن جماعةٌ على هذه القراءةِ وقالوا: الإِشباعُ من ضرائرِ الشعر فكيف يُجْعَلُ في أفصحِ كلامٍ؟ وزعم بعضُهم أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيلِ الهمزةِ بين بين، فظنَّها الراوي زيادةَ ياءٍ بعد الهمزة، قال: "كما تُوُهِّم عن أبي عمروٍ واختلاسُه في "بارئكم" و "يَأْمُركم" أنه سَكَّن". وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ الرواةَ أجلُّ من هذا.
وقرأ زيدٌ بن عليّ "إفادة" بزنةِ "رِفادة"، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ مصدراً لأِفاد كأَقام إقامةً، أي: ذوي إفادةٍ، وهم الناسُ الذين يُنْتَفَعُ بهم. والثاني: أن يكون أصلُها "وِفادة" فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً نحو: إشاح وإعاء.
وقرأت أمُّ الهيثم "أَفْوِدَة" بواوٍ مكسورة، وفيها وجهان، أحدُهما: أن يكونَ جمع "فُوَاد" المُسَهًّل: وذلك أنَّ الهمزةَ المفتوحةَ المضمومَ ما قبلها يَطَّرِد قَلْبُها واواً نحو: جُوَن، ففُعِل في "فُؤاد" المفرد ذلك، فأُقِرَّت في الجمع على حالها. والثاني: قال صاحب "اللوامح": "هي جمعُ وَفْد". قلت: فكان ينبغي أن يكونَ اللفظ "أَوْفِدة" بتقديم الواو، إلا أن يُقال: إنه جَمَعَ "وَفْداً" على "أَوْفِدَة" ثم قلَبه فوزنه أَعْفِلَة، كقولهم: آرام في أرْآم وبابِه، إلا أنه يَقِلُّ جمعُ فَعْل على أفْعِلة نحو: نَجْد وأَنْجدة، وَوَهْي وأَوْهِيَة. وأمُّ الهيثمِ امرأةٌ نُقِلَ عنها شيءٌ من اللغة.
وقُرِىء "آفِدَة" بزِنَةِ ضارِبة، وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ مقلوبةً مِنْ أَفئدة بتقديم الهمزة على الفاء فَقُلِبَتْ الهمزةُ ألفاً، فوزنها أَعْفِلة كآرام في أرْآم. والثاني: أنها اسمُ فاعلٍ مِنْ أَفِد يَأْفَدُ، أي: قَرُب ودَنا، والمعنى: جماعة آفِدَة، أو جماعات آفِدة.
وقُرِئ "آفِدَة" بالقَصْرِ، وفيها وجهان أيضاً، أحدُهما: أن يكونَ اسمَ فاعلٍ على فَعِل كفَرِحَ فهو فَرِح. [والثاني]: أن تكونَ محففةً من "أَفْئِدة". بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلها، وحَذْفِ الهمزةِ.
و "من الناس" في "مِنْ" وجهان، أحدُهما: أنها لابتداءِ الغاية. قال الزمخشريُّ: "ويجوز أن تكونَ "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ كقولك: "القلبُ مني سقيم" تريد: قلبي، كأنه قيل: أفئدةَ ناسٍ، وإنما نَكَّرْتَ المضافَ في هذا التمثيلِ لتنكيرِ "أَفْئدة" لأنها في الآية نكرةٌ، ليتناولَ بعضَ الأفئدةِ". قال الشيخ: "ولا يَظْهر كونُها للغايةِ؛ لأنه ليس لنا فِعْلٌ يُبتدأ فيه بغايةٍ ينتهي إليها، إذ/ لا يَصِحُّ جَعْلُ ابتداءِ الأفئدة من الناس".
والثاني: أنها للتبعيضِ، وفي التفسير: لو لم يقل "من الناس" لحجَّ الناسُ كلُّهم.
قوله: "تَهْوي" هذا هو المفعولُ الثاني للجَعْل. والعامَّة "تَهْوِي" بكسرِ العين بمعنى: تُسْرِعُ وتَطيرُ شوقاً إليهم. قال:

2897- وإذا رَمَيْتَ به الفِجاجَ رَأَيْتَه يَهْوي مخارمَها هُوِيَّ الأجْدَلِ

وأصلُه أنْ يتعدَّى باللام، كقوله:

2898- حتى إذا ما هَوَتْ كفُّ الغلامِ لها طارَتْ وفي كَفِّه مِنْ ريشِها بِتَكُ

وإنَّما عُدِّي بـ "إلى" لأنه ضُمِّنَ معنى "تميل"، كقوله:

2899- تَهْوي إلى مكَّةَ تَبْغي الهدى ما مُؤْمِنُ الجِنِّ كأَنْجاسِها

وقرأ أميرُ المؤمنين علي وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد ومجاهد بفتح الواو، وفيه قولان، أحدُهما: أنَّ "إلى" زائدةٌ، أي: تهواهم. والثاني: أنه ضُمِّنَ معنى تَنْزِعُ وتميل، ومصدرُ الأول على "هُوِيّ"، كقوله:

2900- ................................. يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجْدَل

والثاني على "هَوَى". وقال أبو البقاء: "معناهما متقاربان إلاَّ أَنَّ هَوَى - يعني بفتح الواو- متعدٍّ بنفسه، وإنما عُدِّيَ بإلى حَمْلاً على تميل".
وقرأ مسلمة بن عبد الله: "تُهْوَى" بضم التاء وفتح الواو مبنياً للمفعول مِنْ "أهوى" المنقول مِنْ "هَوِيَ" اللازمِ، أي: يُسْرَع بها إلى إليهم.