التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٤٣
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ }: الكافُ فيها الوجهانِ المشهوران كما تقدَّم ذلك غيَر مرةٍ، وهما: إمَّا النصبُ على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أو على الحالِ من المصدرِ المحذوفِ، والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً جَعْلاً مثلَ ذلك ولكنَّ المشارَ إليه بـ"ذلك" غيرُ مذكورٍ فيما تقدَّم، وإنما تقدَّم ما يَدُلُّ عليهِ واختلفوا في "ذلك" على خمسةِ أوجهٍ: أحدها أنَّ المشارَ إليه هو الهدفُ المدلولُ عليه بقولِ: { يَهْدِي مَن يَشَآءُ } والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ما هَدَيْناكم الثاني: أنه الجعلُ، والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ذلك الجعلِ الغريبِ الذي فيه اختصاصُكم بالهدايةِ. الثالث: قيل: المعنى كما جَعَلْنا قِبْلَتَكم متوسطةً جَعَلْناكم أمةً وسطاً. الرابع: قيل: المعنى كما جعلنا القِبْلة وسطَ الأرضِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً. الخامس: - وهو أبْعَدُها - أنَّ المشارَ إليه قولُه: { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا } أي: مثلُ ذلك الاصطفاءِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً و "جَعَل" بمعنى صَيَّر، فيتعدَّى لاثنين، فالضميرُ مفعولٌ أولُ، و "أمةً" مفعولٌ ثانٍ ووسَطاً نعتُه. والوسَطُ بالتحريكِ: اسمٌ لما بينَ الطرفَيْن، ويُطْلَقُ على خِيارِ الشيءِ لأن الأوساطَ محميَّةٌ بالأطراف قال حبيب:

752 ـ كانَتْ هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَتْ بها الحوادثُ حتى أَصْبَحَتْ طَرَفا

ووسَطُ الوادي خيرُ موضعٍ فيه، قالَ زهير:

753 ـ هُمُ وسَطٌ تَرْضى الأنامُ بحُكْمِهِمْ إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعْظَمِ

وقوله:

754 ـ وكُنْ من الناسِ جميعاً وسَطَا

وفَرَّق بعضُهم بين وسَط بالفتح ووسْط بالتسكين، فقال: كلُّ موضع صَلَح فيه لفظُ "بَيْنَ" يقال بالسكون وإلا فبالتحريك. فتقول: جَلَسْتُ وسْطَ القومِ بالسكون. وقال الراغب: "وسَطُ الشيءِ ما له طرفان متساويا القَدْر، ويُقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد، فتقول: وسَطُه صُلْبٌ، ووسْط بالسكون يُقال في الكميةِ المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو: "وسْط القوم" كذا، وتحريرُ القولِ فيه هو أن المفتوحَ في الأصلِ مصدر، ولذلك استوى في الوصف به الواحد وغيره، المؤنث والمذكرُ، والساكنُ ظرفٌ والغالبُ فيه عدمُ التصرُّفِ، وقد جاء متمكناً في قول الفرزدق:

755 ـ أتَتْه بمَجْلومٍ كأنَّ جبينَه صلاءَةُ وَرْسٍ وَسْطُها قد تَفَلَّقَا

رُوي برفع الطاءِ والضميرُ لصلاءة، وبفتحِها والضميرُ للجائية.
قوله: "لتكونوا" يجوز في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أن تكونَ لام "كي" فتفيدَ العلة. والثاني أن تكونَ لامَ الصيرورةِ، وعلى كلا التقديرين فهي حرفُ جر، وبعدَها أَنْ مضمرةٌ، وهي وما بعدَها في محلِّ جر، وأتى بـ"شهداء" جمعَ شهيدٍ الذي/ يَدُلُّ على المبالغةِ دونَ شاهِدين وشهود جمعَيْ شاهد.
وفي "على" قولان أحدُهما: أنَّها على بابِها، وهو الظاهرُ. والثاني أنها بمعنى اللام، بمعنى: أنكم تَنْقُلون إليهم ما عَلِمْتموه من الوحي والدين، كما نقله الرسولُ عليه السلام، وكذلك القولان في "على" الأخيرة، بمعنى أن الشهادَة بمعنى التزكية منه عليه السلام لهم. وإنما قُدِّم متعلِّق الشهادة آخِراً وقُدِّم أولاً لوجهين، أحدُهما - وهو ما ذكره الزمخشري - أن الغرضَ في الأولِ إثباتُ شهادتِهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم يكونِ الرسولِ شهيداً عليهم، والثاني: أن "شهيداً" أَشْبَهُ بالفواصلِ والمقاطعِ من "عليكم" فكان قولُه "شهيداً" تمامَ الجملةِ ومقطعَها دون "عليكم". وهذا الوجهُ قاله الشيخُ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبَه من أنَّ تقديمَ المفعولِ يُشْعِرُ بالاختصاصِ وقد تقدَّم ذلك.
قوله: { ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } في هذه الآيةِ خمسةُ أوجهٍ أحدُها: أنَّ "القِبلْة" مفعولٌ أولُ، و { ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } مفعولٌ ثانٍ، فإنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ، وهذا ما جَزَمَ به الزمخشري فإنَّه قال: { ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } ليس بصفةٍ للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جَعَلَ، يريد: وما جَعَلْنَا القبلةَ الجهةَ التي كنتَ عليها، وهي الكعبةُ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبةِ، ثم أُمِر بالصلاةِ إلى صخرةِ بيتِ المَقْدِس ثم حُوِّلَ إلى الكعبةِ".
الثاني: أنَّ "القِبلةَ" هي المفعولُ الثاني، وإنما قُدِّم، و { ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } هو الأول، وهذا ما اختارَه الشيخُ محتجَّاً له بأنَّ التصييرَ هو الانتقالُ من حالٍ إلى حالٍ، فالمتلبِّسُ بالحالةِ الأولى [هو المفعولُ الأولُ والملتبِّسُ] بالحالةِ الثانية هو المفعولُ الثاني، ألا ترى أنك تقول: جَعَلْتُ الطينَ خَزَفاً وجَعَلْتُ الجاهلَ عالِماً، والمعنى هنا على هذا التقديرِ، وما جَعَلْنا القبلةَ - الكعبة التي كانَتْ قبلةً لك أولاً ثم صُرِفْتَ عنها إلى بيت المقدس - قبلتك الآن إلا لِنَعْلمَ، ونسبَ الزمخشري في جَعْلِه "القبلةَ" مفعولاً أولَ إلى الوهم. وفيه نظر.
الثالث: أنَّ "القبلة" مفعولٌ أول، و "التي كنتَ" صفتَهَا، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه: وما جعلْنا القبلةَ التي كنت عليها منسوخةً. ولَمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قَدَّره: وما جَعَلْنَا القبلةَ التي كنت عليها قبلة، ولا طائل تحته.
الرابع: أن "القبلةَ" مفعولٌ أولُ، و "إلا لِنَعْلَمَ" هو المفعولُ الثاني، وذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: وما جعلنا صَرْفَ القِبْلةِ التي كنت عليها إلاَّ لنعلمَ، نحو قولِك: ضَرْبُ زيدٍ للتأديبِ، أي: كائنٌ أو ثابتٌ للتأديبِ.
الخامس: أنَّ "القبلةَ" مفعولٌ أولُ، والثاني محذوفٌ، و { ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } صفةٌ لذلك المحذوفِ، والتقديرُ: وما جَعَلْنا القبلةَ القبلةَ التي، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيفٌ. وفي قوله "كنت" وجهان أحدهما: أنها زائدةُ، ويُروَى عن ابن عباس أي: أنتَ عليها، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعراب.
والقِبْلَةُ في الأصلِ اسمٌ للحالة التي عليها المقابِلُ نحو: الجلْسة، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجِّه إليه للصلاة. وقال قطرب: "يقولون: "ليس له قِبْلَةٌ" أي جهةٌ يتوجه إليها". وقال غيره: إذا تقابل رجلان فكلُّ واحدٍ قِبْلَةٌ للآخرِ.
قوله: { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } قد تقدَّم أنه في أحدِ الأوجهِ يكون مفعولاً ثانياً، وأمَّا على غيره فهو استثناءٌ مفرغ من المفعولِ له العامِّ، أي: ما سببُ تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلا لكذا. وقوله "لنعلم" ليس على ظاهره فإن علمَه قديمٌ غيرُ حادثٍ فلا بدَّ من تأويلِهِ وفيه أوجهٌ، أحدُها: لتمييز التابع من الناكص إطلاقاً للسببِ وإرادةَ المسبَّبِ. وقيل: على حَذْفِ مضافٍ أي لنعلمَ رسولَنا فَحَذَفَ، أو أرادَ بذلك تَعلُّقَ العلمِ بطاعتِهم وعِصْيانِهم في أمرِ القبِّلَه.
قوله: { مَن يَتَّبِعُ } في "مَنْ" وجهان، أحدُهما: أنها موصولةٌ، و "يتَّبع" صلتُها، والموصولُ وصلتُه في محلِّ المفعولِ لـ"نعلم" لأنه يتعدَّى إلى واحدٍ. والثاني: أنها استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ و "يتَّبعُ" خبرهُ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنَّها معلِّقة للعلم، والعلم على بابِه، وإليه نحا الزمخشري في أحدِ قوليه. وقد رَدَّ أبو البقاء هذا الوجهَ فقال: "لأنَّ يُوجِبُ أَنْ تُعَلَّق "نعلم" عن العملِ، وإذا عُلِّقَتْ عنه لم يَبْقَ لـ"مِنْ" ما تتعلَّقُ به لأنَّ ما بعد الاستفهامِ لا يتعلَّق بما قبله، ولا يَصِحُّ تعلُّقها بيتَّبعُ لأنها في المعنى متعلِّقةٌ بنَعْلَمَ، وليس المعنى: أيُّ فريقٍ يَتَّبعُ مِمَّنْ ينقلب" انتهى. وهو رَدٌّ واضحُ إذ ليس المعنى على ذلك، إنما المعنى على أَنْ يتعلَّقَ مِمَّنْ ينقلِبُ بنعلمَ نحو: عَلِمْتُ مَنْ أحسنَ إليك ممَّنْ أساءَ، وهذا يُقَوِّي التَجوُّزَ بالعِلْمِ عن التمييز؛ فإنَّ العلمَ لا يتعدَّى بمِنْ إلا إذا أريد به التمييزُ. وقرأ الزهري: "إلا ليُعْلَمَ" على البناءِ للمفعولِ، وهي قراءةٌ واضحةٌ لا تَحْتاجُ إلى تأويلٍ، فإنَّا [لا] نُقَدِّرُ ذلك الفاعل غيرَ اللهِ تعالى.
قوله: { عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } في محلِّ نَصْبٍ على الحال، أي: يَنْقِلِبُ مرتدَّاً راجعاً على عَقِبَيْه، وهذا مجازٌ، وقُرىء "على عَقْبَيْه" بسكون القاف وهي لغةُ تميم.
قوله: { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } "إنْ" هي المخففةُ من الثقيلةِ دَخَلَتْ على ناسخِ المبتدأ والخبر، وهو أغلبُ أحوالِها، واللامُ للفرقِ بينها وبين إنْ النافيةِ، وهل هي لامُ الابتداءِ أو لامٌ أخرى أُتِيَ بها للفرقِ؟ خلافٌ مشهور، وزعم الكوفيون أنها بمعنى "ما" النافية وأنَّ اللام بمعنى إلاَّ، والمعنى: ما كانت إلا كبيرةً، نقل ذلك عنهم أبو البقاء، وفيه نظرٌ ليس هذا موضعَ تحريرِه.
والقراءةُ المشهورةُ نصبُ "كبيرةً"على خبر "كان" واسمُ كانَ مضمرٌ فيها يعودُ على التَّوْلِيَةِ أو الصلاةِ أو القِبلةِ المدلولِ عليها بسياقِ الكلامِ وقرأ اليزيدي [عن أبي عمرو] برفعِها، وفيه تأويلان، أحدُهما - وذكره الزمخشري - :أنَّ "كان" زائدةٌ، وفي زيادتها عاملةً نظرٌ لا يَخْفى، وقد استدلَّ الزمخشري على ذلك بقوله:

756 ـ فكيفَ إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ

فإنَّ قولَه "كرام" صفةٌ لجيران، وزادَ بينهما "كانوا" وهي رافعةٌ للضميرِ، ومَنْ مَنَع ذلك تأوَّل "لنا" خبراً مقدماً، وجملةُ الكونِ صفةٌ لجيران. والثاني: أنَّ "كان" غيرُ زائدةٍ، بل يكونُ "كبيرةً" خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: وإنْ كانَتْ لهي كبيرةٌ، وتكونُ هذه الجملةُ في محلّّ نصبٍ خبراً لكانت، ودخلت لام الفرقِ على الجملة الواقعةِ خبراً، وهو توجيهٌ ضعيفٌ، ولكن لا تُوَجَّه هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرَ مِنْ ذلك.
قوله: { إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ } متعلِّقٌ بـ"كبيرة"، وهو استثناءٌ مفرغٌ، فإنْ قيل: لَمْ يتقدَّمْ هنا نفيٌ ولا شبهُه، وشرطُ الاستثناءِ المفرَّغِ تَقَدَّمُ شيءٍ من ذلك، فالجوابُ أنَّ الكلام وإن كان موجَباً لفظاً فإنه في معنى النفي، إذ المعنى أنَّها لا تَخِفُّ ولا تَسْهُلُ إلا على الذينَ، وهذا التأويلُ بعينِه قد ذكروه في قوله:
{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45]، وقال الشيخ: "هو استثناءٌ من مستنثىً محذوفٍ تقديرُه: وإنْ كانت لكبيرةً على الناسِ إلا على الذين، وليسَ استثناءً مفرغاً لأنه لم يتقدَّمْه نفيٌ ولا شِبْهُه" وقد تقدم جوابُ ذلك.
قوله: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ } في هذا التركيب وما أشبهه مِمَّا ورد في القرآن وغيرِه نحو:
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ } [آل عمران: 179] { { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ } [آل عمران: 179] قولان أحدُهما: - قول البصريين - وهو أنَّ خبرَ "كان" محذوفٌ، وهذه اللامُ تُسَمَّى لامَ الجحود ينتصِبُ الفعلُ بعدها بإضمار "أَنْ" وجوباً، فينسبكُ منها ومن الفعلِ مصدرٌ مُنْجَرٌّ بهذه اللامِ، وتتعلَّق هذه اللامُ بذلك الخبرِ المحذوفِ، والتقديرُ: وما كان اللهُ مريداً لإِضاعةِ أعمالِكم، وشرطُ لام الجحودِ عندهم أن يتقدَّمَها كونٌ منفيٌّ. واشترط بعضُهم مع ذلك أن يكونَ كوناً ماضياً. ويُفَرَّقُ بينها وبينَ لام كي ما ذكرنا من اشتراطِ تقدُّمِ كونٍ منفيٍّ، ويَدُلُّ على مذهبِ البصريين التصريحُ بالخبرِ المحذوفِ في قوله:/

757 ـ سَمَوْتَ ولم تَكُنْ أَهْلاً لِتَسْمُو .....................

والقولُ الثاني للكوفيين: وهو أنَّ اللامَ وما بعدَها في محلِّ الخبرِ، ولا يُقَدِّرون شيئاً محذوفاً، ويزعمون أنَّ النصبَ في الفعلِ بعدَها بنفسِها لا بإضمارِ أَنْ، وأنَّ اللامَ للتأكيدِ، وقد رَدَّ عليهم أبو البقاء فقال: "وهو بَعيدٌ لأنَّ اللاَم لامُ الجرِّ و "أَنْ" بعدها مُرادَةٌ، فيصيرُ التقدير على قولهم: وما كان الله إضاعةَ إيمانكم، وهذا الردُّ هنا لازمٍ لهم، فإنَّهم لم يقولوا بإضمارِ "أَنْ" بعد اللام كما قَدَّمْتُ نقلَه عنهم، بل يزعمون النصبَ بها وأنها زائدةٌ للتأكيدِ، ولكنْ للردِّ عليهم موضعٌ غيرُ هذا.
واعلم أنَّ قولَك: "ما كان زيدٌ ليقومَ" بلامِ الجحودِ أَبْلَغُ من: "ما كان زيدٌ يقومُ"، أمَّا على مذهبِ البصريين فواضحٌ، وذلك أنَّ مع لام الجحود نفيَ الإرادةِ للقيام والتهيئةِ، ودونَها نفيٌ للقيامِ فقط، ونفيُ التهيئةِ والإِرادة للفعلِ أبلغُ من نفيِ الفعلِ، إذ لا يلزمُ من نفي الفعل نفيُ إرادتِه، وأمَّا على مذهبِ الكوفيين فلأنَّ اللامَ عندهم للتوكيد والكلامُ مع التوكيدِ أبلغُ منه بلا توكيدٍ.
وقرأ الضَّحاك: "ليُضَيِّع" بالتشديد، وذلك أن أَضاع وضَيَّع بالهمزةِ أو التضعيف للنقلِ من "ضاع" القاصر، يقال: ضاع الشيء يضيع، وأضَعْتُه أي أهملته فلم أحفظْه، وأمّا ضاعَ المِسْك يَضوع أي: فاحَ فمادةٌ أخرى.
قوله: { لَرَءُوفٌ } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر: لَرُؤفٌ على وزن: نَدُس، وهي لغةٌ فاشية كقوله:

758 ـ وشَرُّ الظالمينَ فلا تَكُنْهُ يقاتِلُ عَمَّه الرَّؤُفَ الرَّحيما

وقال آخر:

759 ـ يَرَى للمُسلمين عليه حَقَّاً كحقِّ الوالدِ الرَّؤُفِ الرحيمِ

وقرأ الباقون: "لَرَؤُوف" على زنة شَكُور، وقرأ أبو جعفر: "لَرَوُفٌ" من غير همزٍ، وهذا دأبُه في كلِّ همزةٍ ساكنةٍ أو متحركةٍ. والرأفة: أشدُّ الرحمة فهي أخصُّ منها، وفي رؤوف لغتان أَخْرَيَان لم تَصِلْ إلينا بهما قراءةٌ وهما: رَئِفٌ على وزن فَخِذ، ورَأْفٌ على وزن صَعْب. وإنما قُدِّم على "رحيم" لأجلِ الفواصل.