التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٦٤
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }: "الليل" قيل: هو اسمُ جنسٍ فيفرِّقُ بين واحدِه وجمعِه تاءُ التأنيث فيقال: ليلة وليل كتمرة وتمر، والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحْفَظ له جمعٌ، ولذلك خَطَّأ الناسُ مَنْ زَعَم أنَّ اللياليَ جَمْعَ ليل، بل الليالي جمع لَيْلة، وهو جمعٌ غريب، ولذلك قالوا: هو جَمْع ليلاة تقديراً وقد صُرِّح بهذا المفردِ في قَوْل الشاعر:

785 ـ في كلِّ يوم وبكلِّ ليلاهْ

ويَدُلُّ على ذلك تصغيرُهم لها على لُيَيْلَة ونظير ليلة وليال كَيْكة وكَيَاك كأنهم تَوهَّموا أنها كَيْكات في الأصل، والكيكة: البيضة. وأمّا النهار فقال الراغب: "هو في الشرعِ لِما بينَ طلوعِ الفجر إلى غروبِ الشمس"، وظاهرُ اللغة أنه من وقت الإِسفار، وقال ثعلب والنضر بن شميل: "هو من طُلوع الشمس" زاد النضر "ولا يُعَدُّ من قبل ذلك من النهار". وقال الزجاجِ: "أولُ النهار دُرورُ الشمسِ" ويُجْمع على نُهُر وأَنْهِرَة نحو قَذَال وقُذُل وأَقْذِلة، وقيل: "لا يُجْمع لأنه بمنزلة المصدر، والصحيحُ جَمْعُه على ما تقدَّم قال:

786 ـ لولا الثَّريدان لَمُتْنا بالضُّمُرْ ثريدُ ليلٍ وثريدٌ بالنُّهُرْ

وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة وأنها تَدُلُّ على الاتساع، ومنه: "النهار" لاتساعِ ضوئِه عند قوله { مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [البقرة: 25].
والاختلافُ مصدرٌ مضاف لفاعِله، المرادُ باختلافهما أنَّ كلَّ واحد يَخْلُف، ومنه:
{ جَعَلَ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً } [الفرقان: 62]، وقال زهير:

787 ـ بِها العِيْنُ والآرامُ يَمْشِيْنَ خِلْفَةً وأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كلِّ مَجْثَمِ

وقال آخر:

788 ـ ولها بالماطِرُون إذا أَكَلَ النملُ الذي جَمَعا

خِلْفَةٌ حتى إذا ارتَبَعَتْ سَكَنَتْ من جِلَّقٍ بِيَعَا

وقَدَّم الليلَ على النهار لأنَّه سابقهُ، قال تعالى: { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } [يس: 37] وهذا أصحُّ القولين، وقيل: النورُ سابِقُ الظلمةِ وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ: وهي أن الليلةَ هل هي تابعةٌ لليومِ قبلَها أو لليومِ بعدَها؟ فعلى القولِ الصحيح تكونُ الليلةُ لليوم بعدها، فيكونُ اليومُ تابعاً لها. وعلى القولِ الثاني تكونُ لليومِ قبلَها فتكونُ الليلةُ تابعةً له، فيومُ عرفَةَ على القولِ الأولِ مستثنىً من الأصل فإنه تابعٌ لليلةِ بعدَه، وعلى الثاني جاءَ على الأصل.
قوله: { وَٱلْفُلْكِ } عطفٌ على "خَلْقِ" المجرورِ بـ"في" لا على "السماواتِ" المجرورةِ بالإِضافة، والفُلْك [يكون واحداً كقولِه :
{ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [الشعراء: 119] وجمعاً] كقوله: { فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس: 22] فإذا أُريد به، الجَمعُ ففيه أقوالٌ، أحدُها: قولُ سيبويهِ - وهو الصحيحُ - "أنه جمعُ تكسير" فإنْ قيل: جمعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تغيُّرٍ ما، فالجوابُ أنَّ تغييره مقدَّرٌ، فالضمةُ في حالِ كونه جمعاً كالضمةِ في "حُمُر" و "نُدُب" وفي حالِ كونهِ مفرداً كالضمة في قُفْل. وإنَّما حَمَل سيبويهِ على هذا، ولم يَجْعَلْه مشتركاً بين الواحدِ والجمع نحو: "جُنُب" و "شُلُل" أنَّهم لو قَصَدوا الاشتراكَ لم يُثَنُّوه كما لا يُثَنُّون جُنُباً وشُلُلاً فلما ثَنَّوه وقالوا: "فُلْكان" عَلِمْنا أنهم لم يَقْصِدوا الاشتراكَ الذي قصدوه في جُنُب وشُلُل ونظيرُه: ناقةٌ هِجان ونوقٌ هِجان، ودِرْع دِلاص ودُروع دِلاص، فالكسَرةُ في المفردِ كالكسرة في كتاب، وفي الجمعِ كالكسرة في رجال، لأنهم قالوا في التثنيةِ هِجانان ودِلاصان.
الثاني: مذهبُ الأخفش أنَّه اسمُ جمعٍ كصَحْب ورَكْب. الثالث: أنه جَمْع فَلَك بفتحتين كأَسَد وأُسْد، واختار الشيخ أنه مشترك بين الواحدِ والجمعِ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنيةِ، ولم يَذْكُر لاختيارِه وجهاً.
وإذا أُفْرِدَ "فُلْك" فهو مذكرٌ قال تعالى: { فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } قالوا: - ومنهم أبو البقاء -: ويجوزُ تأنيثُه مستدلِّين بقوله: { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي } فوصَفَه بصفةِ التأنيثِ، ولا دليلَ في ذلك لاحتمالِ أنْ يُرادَ به الجمعُ، وحينئذٍ فيوصفُ بما تُوصَفُ به المؤنثةُ الواحدةُ. وأصلُه: من الدوران ومنه: "فَلَك السماء" لدورَانِ النجومِ فيه، وفَلْكَةُ المِغْزَل، وفَلَكَتِ الجاريةُ استدارُ نَهْدُها. وجاءَ بصلةِ "التي" فعلاً مضارعاً ليدلَّ على التجدُّدُ والحدوثِ، وإسنادُ الجري إليها مَجازٌ، وقوله "في البحر" توكيدٌ، إذ معلومٌ أنها لا تجري في غيرِه، فهو كقولِه:
{ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38].
قوله: "بما يَنْفَعُ" في "ما" قولان" أحدُهما: أنَّها موصولةٌ اسميةٌ، وعلى هذا الباءُ للحال أي: تَجْري مصحوبةً بالأعيانِ التي تَنْفَعُ الناسَ. الثاني: أنها حرفيةٌ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسببِ أي: تَجْري بسببِ نَفْع الناسِ في التجارةِ وغيرِها.
قوله: { مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ }: مِنْ الأولى معناها ابتداءُ الغايةِ أي: أَنْزَلَ من جهةِ السماءِ، وأمّا الثانيةُ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدَها: أَنْ تكونَ لبيانِ الجنس فإنّ المُنَزَّلَ من السماء ماءٌ وغيرُه. والثاني: أن تكونَ للتبعيضِ فإنّ المنزَّل منه بعضٌ لا كلٌّ. والثالثُ: أن تكونَ هي وما بعدها بدلاً مِنْ قولِه: "من السماء" بدلَ اشتمال بتكريرِ العاملِ، وكلاهما أعني - مِنْ الأولى ومِنْ الثانية - متعلقان بأَنْزَلَ.
فإنْ قيل: كيف تَعَلَّق حرفان متَّحدان بعاملٍ واحد؟ فالجوابُ أنَّ الممنوعَ من ذلك أن يتَّحِدا معنىً من غير عطفٍ ولا بدلٍ، لا تقول: أخذت من الدراهم من الدنانير. وأمَّا الآيةُ فإن المحذورَ فيها مُنْتَفٍ، وذلك أنك إنْ جَعَلْتَ "مِنْ" الثانية" للبيانِ أو للتبعيض فظاهرٌ لاختلافِ معناهما فإن الأولى للابتداءِ، وإنْ جعلتها لابتداءِ الغايةِ فهي وما بعدها بدلٌ، والبدلُ يجوزُ ذلك [فيه] كما تقدَّم. ويجوز أَنْ تتعلَّقَ "مِنْ" الأولى بمحذوفٍ على أنها حال: إمّا من الموصولِ نفسِه وهو "ما" أو من ضميره المنصوبِ بأنزل أي: وما أنزله الله حالَ كونِه كائناً من السماء.
قوله: { فَأَحْيَا بِهِ } عَطَفَ "أحيا" على "أنزل" الذي هو صلةٌ بفاء التعقيبِ دلالةً على سرعة النبات. و "به" متعلق "بأحيا، والباء يَجوز أن تكونَ للسبب وأن تكونَ باء الآلة، وكلُّ هذا مجازٌ، فإنه متعالٍ عن ذلك، والضميرُ في "به" يعودُ على الموصول./
قوله: { وَبَثَّ فِيهَا } يجوزُ في "بَثَّ" وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على "أنزل" داخلٌ تحت حكمِ الصلةِ؛ لأنَّ قولَه "فَأَحْيا" عطفٌ على "أنزل" فاتصل به وصارا جميعاً كالشيءِ الواحد، وكأنه قيل: "وما أنزل في الأرض من ماءٍ وبَثَّ فيها من كلِّ دابة لأنهم يَنْمُون بالخِصْبِ ويَعيشون بالحَيا. هذا نصُّ الزمخشري. والثاني: أنه عطفٌ على "أحيا".
واستشكل الشيخُ عطفَه عليها، لأنَّها صلةٌ للموصول فلا بُدَّ من ضميرٍ يَرْجِعُ من هذه الجملةِ وليسَ ثَمَّ ضميرٌ في اللفظِ لأنَّ "فيها" يعودُ على الأرض، فبقي أن يكونَ محذوفاً تقديرُه: وبث به فيها، ولكن لا يجوزُ حذفُ الضمير المجرورِ بحرفِ إلاَّ بشروطٍ: أن يكونَ الموصولُ مجروراً بمثلِ ذلك الحرفِ، وأن يتَّحدَ متعلَّقهُما، وأَنْ لا يُحْصَرَ الضميرُ، وأَنْ يتعيَّنَ للربطِ، وألاَّ يكونَ الجارَّ قائماً مقامَ مرفوعٍ، والموصولُ هنا غيرُ مجرورٍ البتةَ، ولمَّا استشكل هذا بما ذَكَرَ خَرَّج الآية على حَذْفِ موصولٍ اسمي، قال: "وهو جائز شائع في كلامهم، وإنْ كان البصريون لا يُجيزونه، وأنشدَ شاهداً عليه:

789 ـ ما الذي دأبُه احتياطَ وحَزْمٌ وهواه أطاع يَسْتويانِ

أي: والذي أطاع، وقوله:

790 ـ أَمَنْ يهجو رسولَ الله منكم ويمدَحُه ويَنْصُره سَواءُ

أي: ومَنْ ينصرُه.
وقوله:

791 ـ فواللهِ ما نِلْتُمْ وما نِيلَ منكمُ بمعتدلٍ وَفْقٍ ولا متقاربِ

أي: ما الذي نلتم؛ وقوله تعالى: { وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [العنكبوت: 46] أي: وبالذي أُنزل إليكم؛ ليطابقَ قولَه: { وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِيۤ أَنَزلَ مِن قَبْلُ } [النساء: 136]. ثم قال الشيخ: "وقد يتمشَّى التقديرُ الأولُ" - يعني جوازَ الحَذْفِ وإن لم يوجد شرطُه - قال: "وقد جاءَ ذلك في أشعارِهم؛ وأَنْشَدَ:

792 ـ وإنَّ لساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها وهُوَّ على مَنْ صَبَّه اللهُ عَلْقَمُ

أي: عَلْقم عليه، وقوله:

793 ـ لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أَنْ يَرُدَّني إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قِادرُه

أي: أَصْعَدْتِني به.
قوله: { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } يجوز في "كل" ثلاثةُ أوجهٍ؛ أحدها: أن يكونَ في موضعِ المفعولِ به لبثَّ؛ وتكونُ "مِنْ" تبعيضيةً. الثاني: أن تكون "مِنْ" زائدةً على مذهب الأخفش، و "كلَّ دابة" مفعول به. لـ"بَثَّ" أيضاً والثالث: أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من مفعولِ "بَثَّ" المحذوفِ إذا قلنا إنَّ ثَمَّ موصولاً محذوفاً تقديرُه: وما بثُّ حالَ كونِه كائناً من كلِّ دابة؛ وفي "مِنْ" حينئذ وجهان؛ أحدهما: أن تكونَ للبيان. والثاني: أن تكونَ للتبعيض.
وقال أبو البقاء: "ومفعولُ "بَثَّ" محذوفٌ" تقديرُه: وبثَّ فيها دوابَّ كلَّ دابِةٍ"، وظاهرُ هذا أنَّ { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } صفةٌ لذلك المحذوفِ وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته.
والبَثُّ: نَشْرٌ وتفريق، قال:

794 ـ .................... وفي الأرضِ مَبْثُوثاً شجاعٌ وعَقْربُ

ومضارعُه يَبُثُّ بضمِّ العَيْنِ، وهو قياسُ المضاعفِ المتعدِّي، وقد جاء الكسرُ في أُلَيَفاظ؛ قالوا: "نَمَّ الحديثَ يَنِمُّه" بالوجهين. والدابَّةُ: اسمٌُ لكلِّ حيوانٍ، وزعَم بعضُهم إخراجَ الطيرِ منه ورُدَّ عليه بقولِ عَلْقمة:

795 ـ كأنَّهم صابَتْ عليهم سَحابةٌ صواعِقُها لطيرِهِنَّ دَبيبُ

وبقول الأعشى:

796 ـ ..................... دبيبَ قَطا البَطْحَاءِ في كلِّ مَنْهَلِ

وبقوله: { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } [النور: 45]، ثم فَصَّل بمَنْ يمشي على رِجْلين وهو الإِنسانُ والطير.
قوله: { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } "تصريف" مصدر صَرَّف وهو الردُّ والتقليبُ، ويجوز أن يكونَ مضافاً للفاعل، والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: وتصريفِ الرياحِ السحابَ، فإنها تسوقُ السحابَ، وأن يكونَ مضافاً للمفعولِ، والفاعلُ محذوفٌ أي: وتصريفِ اللهِ الريحَ. والرياحُ: جمعُ ريح جمعَ تكسير، وياءُ الريحِ والرياحِ عن واوٍ؛ والأصلُ: رِوْح، لأنه من راح يروح، وإنما قُلِبَتْ في "ريح" لسكونها وانكسار ما قبلها، وفي "رياح" لأنها عينٌ في جمعٍ بعد كسرةٍ وبعدَها ألفٌ وهي ساكنةٌ في المفردِ، وهو إبدالٌ مطردٌ، ولذلك لمّا زال موجبُ قَلْبِها رَجَعَتْ إلى أصلِها فقالوا: أَرْواح قال:

797 ـ أَرَبَّتْ بها الأرواحُ كلَّ عَشِيَّةٍ فلم يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ

ومثلُه:

798 ـ لَبَيْتٌ تَخْفُقُ الأرواحُ فيه أَحَبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ

وقَدْ لَحَنَ عمارةُ بن عقيل بن بلال فقال "الأرياح" في شعرِه، فقال له أبو حاتم: "إن الأرياح لا تجوزُ" فقال له عمارة: ألا تسمع قولهم: رياح. فقال أبو حاتم: هذا خلافُ ذلك، فقال: صَدَقْتَ ورَجَعَ. قال الشيخ: "وفي محفوظي قديماً أنَّ "الأرياح" جاء في شِعْر بعضِ فصحاءِ العرب المستشهدِ بكلامِهم كأنهم بَنَوْه على المفردِ وإن كانت علةُ القلبِ مفقودةً في الجمع، كما قالوا: عيد وأعياد، والأصلُ: أَعْواد لأنه من عاد يَعُود، لكنه لمَّا تُرِك البدلُ جُعِلَ كالحرفِ الأصليِّ". قلت: ويؤيِّد ما قاله الشيخُ أن التزامهم الياء في الأرياح لأجلِ اللَّبسِ بينه وبي أَرْواح جمع رُوح، كما قالوا: التُزِمَت الياءُ في أعياد فرقاً بينه وبين أَعْواد جمع عُود الحطبِ، ولذلك قالوا في التصغير عُيَيْد دون عُوَيْد، وعَلَّلوه باللَّبْسِ المذكورِ.
قال ابنُ عطية: "وجاءَتْ في القرآنِ مجموعةً مع الرحمةِ مفردة مع العذابِ إلا في قولِه:
{ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [يونس: 22] وهذا أَغْلَبُ وقوعِها في الكلامِ، وفي الحديث: "الله اجعلها رياحاً ولا تَجْعَلْها ريحاً" لأنَّ ريحَ العذابِ شديدةٌ ملتئمةٌ الأجزاءِ كأنّها جسمٌ واحدٌ، وريحُ الرحمةِ ليِّنةٌ متقطعةٌ، وإنما أُفرِدَتْ مع الفُلْك - يعني في يونس - لأنها لإِجراء السفن وهي واحدةٌ متصلةٌ؛ ثم وُصِفَتْ بالطيِّبة فزالَ الاشتراكُ بينها وبين ريح العذاب". انتهى وهذا الذي قالَه يَرُدُّه اختلافُ القراءِ في أحدَ عشر موضعاً يأتي تفصيلُها. وإنما الذي يقال: إنَّ الجمعَ لم يأتِ مع العذابِ أصلاً؛ وأمَّا المفردُ فجاءَ فيهما، ولذلك اختصَّها عليه السلام في دعائِه بصيغةِ الجمعِ.
وقرأ هنا "الريح" بالإِفراد حمزةُ والكسائي، والباقون بالجمع، فالجمعُ لاختلافِ أنواعِها: جَنوباً ودَبوراً وصَبا وغيرَ ذلك، وإفرادُها على إرادة الجنس.
والسحابُ: اسمُ جنسٍ واحدَتُه سَحابةٌ، سُمِّي بذلك لانسحابِه، كما قيل له: حَبِيٌّ لأنه يَحْبُو، ذكر ذلك أبو علي، وباعتبار كونِه اسمَ جنس وَصَفَه بوصفِ الواحدِ المذكَّر في قوله: "المُسَخَّر" كقوله:
{ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [القمر: 20] ولمّا اعتبر معناه تارةً أخرى وَصَفَه بما يوصَفُ به الجمعُ في قوله: { سَحَاباً ثِقَالاً } [الأعراف: 57]، ويجوز أن يوصفَ بما تُوصفُ به المؤنثةُ الواحدةُ كقولِه: { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } / [الحاقة: 7] وهكذا كلُّ اسم جنس فيه لغتان: التذكيرُ باعتبارِ اللفظِ والتأنيثُ باعتبارِ المعنى.
والتسخيرُ: التذليلُ وجَعْلُ الشيءِ داخلاً تحت الطَّوْعِ. وقال الراغب: "هو القَهْرُ على الفعلِ وهو أبلغُ من الإِكراه".
قوله: { بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ } في "بين" قولان، أحدهما: أنه منصوبٌ بقوله: "المُسخَّرِ"؛ فيكونُ ظرفاً للتسخير. والثاني: أن يكونَ حالاً من الضمير المستتِر اسمِ المفعول، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً بين السماء و "لآياتٍ" اسمُ إنَّ والجارُ خبرٌ مقدمٌ، ودَخَلَتِ اللامُ على الاسمِ لتأخُّرِه عن الخبر، ولو كان موضعَه لما جازَ ذلك فيه.
وقوله: { لِّقَوْمٍ } في محلِّ نصبٍ لأنَّه صفةٌ لآيات، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ وقولُه "يَعْقِلون" الجملةُ في محلذ شجرٍ لأنها صفةٌ لقومٍ.