التفاسير

< >
عرض

وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ
١٩١
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم }: "حيث" منصوبٌ بقوله: "اقتلوهم"، و "ثَقِفْتُموهم" في محلِّ خفضٍ بالظرف، وثَقِفْتموهم أي: ظَفِرتْم بهم، ومنه: "رجلٌ ثقيف": أي سريعُ الأخذ لأقرانِه، قال:

867 ـ فإمَّا تَثْقَفوني فاقتلوني فَمَنْ أَثْقَفْ فليسَ إلى خلودِ

وثَقِفَ الشيءَ ثقافةً إذا حَذَقَه، ومنه الثقافةُ بالسيف، وثَقِفْتُ الشيء قَوَّمُتُه ومنه الرماح المُثَقَّفة، قال الشاعر:

686 ـ ذَكَرْتُكِ والخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْننا وقد نَهِلَتْ مِنَّا المثقَّفَةُ السُّمْرُ

قوله: { مِّنْ حَيْثُ } متعلِّقٌ بما قبله، وقد تُصُرِّفَ في "حيث" بجَرِّها بمِنْ كما جُرَّت بالباء وفي، وبإضافة "لدى" إليها. و "أَخْرجوكم" في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه. ولم يذكر "للفتنة" ولا "للقتل" - وهما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً، إذ المراد إذا وُجِدَ هذان، من أيِّ شخص كان بأي شخصٍ كان، وقد تقدَّم أنه يجوز حَذْفُ الفاعلِ مع المصدر.
قوله: { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ } قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة: "ولا تُقاتلوهم حتى يقاتِلوكم، فإنْ قاتلوكم" بالألف من القتال، وقرأها حمزة والكسائي من غير ألف من القتل. فأما قراءة الجمهور فهي واضحةٌ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل، فدلالتها على النهي عن القتل بطريقِ الأوْلى. وأمّا قراءةُ الأخوين ففيها تأويلان، أحدُهما: أن يكونَ المجازُ في الفعل، أي: ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قَتْلكم. ومنه { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ }[آل عمران: 146] ثم قال: "فما وَهَنوا" أي ما وَهَن مَنْ بقيَ منهم، وقال الشاعر:

869 ـ فإنْ تَقْتُلونا نُقَتِّلْكُمُ وإنْ تَفْصِدوا الدَّمَ نَفْصِدِ

أي: فإنْ تقتلوا بعضنا. وأَجْمَعوا على "فاقتلوهم" أنَّه من القتل، وفيه بشارةٌ بأنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم مُتَمَكِّنون منهم بحيثُ إنكم أَمَرْتُم بقتلِهم لا بقتالِهم لنصرتِكم عليهم وخُذْلانِهم، وهي تؤيِّد قراءةَ الأخوينِ، ويؤيِّدُ قراءةَ الجمهورِ: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }.
و "عند" منصوبٌ بالفعل قبله. و "حتى" متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له بمعنى "إلى"، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار "أَن" كما تقرَّر. والضميرُ في "فيه" يعودُ على "عند"، إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى إليه الفعلُ إلا بـ"في"، لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولِها، وأصلُ الظرفِ على إضمارِ "في" اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعَ في الظرفِ فَيَتَعدَّى الفعلُ إلى ضميره مِنْ غيرِ "في"، لا يُقال: "الظرف ليس حكمه حكمَ ظاهره، ألا ترى أنَّ ضميرَه يُجَرُّ بفي وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه. ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله: { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } أي: فإنْ قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه، فَحَذَفَ لدلالةِ السياقِ عليه.
قوله: { كَذَلِكَ جَزَآءُ } فيه وجهان: أحدُهما: أنَّ الكافَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و "جزاءُ الكافرين" خبرُه، أي: مثلُ ذلك الجزاءِ جزاؤهم، وهذا عند مَنْ يرى أن الكافَ اسمٌ مطلقاً، وهو مذهبُ الأخفش. والثاني: أن يكونَ "كذلك" خبراً مقدماً، و "جزاءٌ" مبتدأ مؤخراً، والمعنى: جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجزاءِ وهو القتلُ. و "جزاء" مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه أي: جزاءُ الله الكافرين. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ "الكافرين" مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ مقدرٌ من فعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ، تقديرُه: كذلك يُجْزى الكافرون، وقد تقدَّم لنا في ذلك خلافٌ.