التفاسير

< >
عرض

لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
٢٢٥
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { بِٱلَّلغْوِ }: متعلَّقٌ بـ"يُؤاخِذُكم". والباءُ معناها السببيةُ كقولِه تعالى: { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [العنكبوت: 40]، { { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ } [النحل: 61].
واللَّغْوُ: مصدرُ لَغا يَلْغو، يقال: لَغا يلغو لَغْواً، مثل غَزا يغزوا غزواً ولَغِي يَلْغَى لَغَىً مثل لَقِيَ يَلْقَى لَقَىً، ومن الثاني قولُه تعالى:
{ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } . واختُلِفَ في اللغُو: فقيل: ما سَبَقَ به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ، قاله الفراء، ومنه قول الفرزدق:

960 ـ ولَسْتَ بمأخوذٍ بلَغْوٍ تَقُوله إذا لم تُعَمِّدْ عاقِدَاتِ العَزائِمِ

ويُحْكى أن الحسنُ سُئل عن اللغو وعن المَسْبِيَّة ذاتِ زَوْج، فنهض الفرزدق وقال: "ألم تَسْمَع مَا قُلْتُ، وأنشد: ولستَ بمأخوذ، وقوله:

961 ـ وذاتِ حليلٍ أَنْكَحَتْها رِماحُنا حلالٌ لِمَنْ يَبْني بها لم تُطَلَّقِ

فقال الحسنُ: ما أذكاك لولا حِنْثُك". وقد يُطْلَقُ على كل كلامٍ قبيح "لَغْو".
قال تعالى:
{ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } } [الفرقان: 72] { { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [مريم: 62] وقال:

962 - ورَبِّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ عن اللَّغَا ورفَثِ التكلُّمِ

وقيل: ما يُطْرَحُ من الكلامِ استغناءً عنه، مأخوذٌ من قولِهِم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولادِ الإِبلِ في الدِيَةَ "لَغْوُ" ومنه:

963 ـ ..................... كما أَلْغَيْتَ في الدِّيَة الحُوارا

وقيل: هو ما لا يُفْهَمُ، من قولِهم: "لغا الطائرُ" صَوَّت: واللغوُ: ما لَهِجَ به الإِنسانُ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا. قال الراغب: "ولَغِي بكذا: أي لَهج به لَهَج العُصفور بِلَغاه، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فَرقةٌ لغة، لجعلها مشتقةً من لَغِي بكذا أي أولعَ به. وقال ابن عيسى: - وقد ذكر أن اللغةَ ما لا يفيدُ - : "ومنه اللغةُ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ" وقد غَلَّطوه في ذلك.
قوله: { فِيۤ أَيْمَانِكُمْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبلَه كقولك: "لغا في يمينِه". الثالث: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من اللغو، وتعرفه من حيث المعنى أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ، ووصفْتَ به اللغوَ لصَحَّ المعنى، أي: اللغوُ الذي في أَيْمانِكم.
قوله: { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم } وَقَعْت هنا "لكن" بين نقيضَيْنِ باعتبار وجودِ اليمينِ، لأنها لا تَخْلُوا: إمَّا أَنْ لا يقصِدَها القلبُ بل جَرَتْ على اللسانِ وهي اللغُو، وإمَّا أن يقصِدَها وهي المنعقدةُ.
قوله { بِمَا كَسَبَتْ } متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه، والباءُ للسببيةِ كما تقدَّم. و "ما" يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مصدريةٌ لتقابِلَ المصدرَ وهو اللغوُ، أي: لا يؤاخِذُكم باللغوِ ولكنْ بالكَسْبِ. والثاني. أنها بمعنى الذي.
ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ أي: كَسَبَته، ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى الذي أكثرُ منها مصدريةً. والثالثُ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً والعائدُ/ أيضاً محذوفٌ وهو ضعيفٌ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ تقديرُه: ولكنْ يُؤاخِذُكم في أَيْمانكم بما كَسَبَتْ قلوبُكم، فحَذَفَ لدلالةِ ما قبلَه عليه.
والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُم إذا عَفَا مع قدرة، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر، وتَثَقَّبَ يَحْلَم بالفتح أي: فسد وتثقَّب قال:

964 ـ فإنَّك والكتابَ إلى عليٍّ كدابِغَةٍ وقد حَلِمَ الأَديمُ

وأمَّا "حَلَم" أي رأى في نومِه فبالفتح، ومصدرُ الأولِ "الحِلْم" بالكسر قال الجَعْدي:

965 ـ ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم تَكُنْ له بوادرُ تَحْمي صَفْوَه أن يُكَدَّرا

ومصدرُ الثاني "الحَلَمُ" بفتحِ اللامِ، ومصدرُ الثَالثِ، "الحُلُم" و "الحُلْم" بضمِّ الحاءِ مع ضمِّ اللامِ وسكونِها.