التفاسير

< >
عرض

وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٣٣
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ }: كقوله: { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } فَلْيُلتفتْ إليه. والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ جاريتانِ مَجْرى الجوامدِ، ولذلك لم يُذْكَرَ موصوفُهما.
قوله { حَوْلَيْنِ } منصوبٌ على ظرفِ الزمانِ، ووصفُهما بكاملين رفعاً للتجوُّز، إذ قد يُطْلَقُ "الحولان" على الناقصين شهراً وشهرين. والحَوْلُ: السنةُ، سَمُيِّتْ لتحوُّلِها، والحَوْلُ أيضاً: الحَيْلُ ويقال: لا حولَ ولا قوة، ولا حَيْلَ ولا قوة.
قوله: { لِمَنْ أَرَادَ } في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ، وتكونُ اللامُ للتعليلِ، و "مَنْ" واقعةٌ على الآباء، أي: الوالدات يُرْضِعْنَ لأجلِ مَنْ أَرادَ إتمام الرضاعةِ من الآباءِ، وهذا نظيرٌ قولِك: "أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه". والثاني: أنها للتبيين، فتتعَلَّق بمحذوفٍ، وتكونُ هذه اللامُ كاللام في قوله تعالى:
{ هَيْتَ لَكَ } [يوسف: 23]، وفي قولهم: "سُقْياً لك". فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّتِ به، وذلك أنه لمّا ذَكَر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولينِ كاملينِ بيَّن أنَّ ذلكَ الحكمَ إنما هو لِمَنْ أرادَ أن يُتِمَّ الرَّضَاعَة. و "مَنْ" تحتمل حينئذ أن يُرادَ بها الوالداتُ فقط أو هُنَّ والوالدون معاً. كلُّ ذلك محتملٌ. والثالث: أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدأ محذوفٌ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتقديرُ: ذلك الحكمُ لِمَنْ أرادَ. و "مَنْ" على هذا تكونُ للوالداتِ والوالدَيْنِ معا.
قوله: { أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } "أَنْ" وما في حَيِّزها في محلِّ نصب مفعولاً بأراد، أي: لمن أراد إتمامَها. والجمهور على "يُتمَّ الرَّضاعة" بالياء. المضمومة من "أتَمَّ" وإعمال أنْ الناصبة، ونصب "الرَّضاعة" مفعولاً به، وفتح رائها. وقرأ مجاهد والحسن وابن محيصن وأبو رجاء: "تَتِمَّ" بفتح التاء من تَمَّ، "الرضاعة" بالرفع فاعلاً وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما كَسَرا راء "الرضاعة"، وهي لغةٌ كالحَضارة والحِضارة، والبصريون يقولون: فتحُ الراء مع هاء التأنيثِ وكسرُها مع عدمِ الهاء، والكوفيون يزعمون العكسَ. وقرأ مجاهد - ويُرْوى عن ابنِ عباس - : { أَنْ يُتِمُّ الرَّضاعة } برفع "يُتِمُّ" وفيها قولان، أحدُهما قولُ البصريين: أنها "أَنْ" الناصبة أُهْمِلت حَمْلاً على "ما" أختِها لاشتراكِهما في المصدرية، وأنشدوا على ذلك قوله:

989 ـ إني زعيمٌ يا نُوَيْــ ــقَةُ إنْ أَمِنْتِ من الرَّزاحِ

أنْ تهبطِين بلادَ قَوْ مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ

وقولَ الآخر:

990 ـ يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما وحيثما كُنتما لُقِّيتما رَشَدا

أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ويَحْكُما مني السلامَ وألاَّ تُشْعِرا أَحَدا

فأَهْملها ولذلك ثَبَتَتْ نونُ الرفع، وأَبَوأ أن يَجْعلوها المخففةَ من الثقيلةِ
لوجهين، أحد لوجهين، أحدُهما: أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملةِ الفعليةِ بعدَها، والثاني: أنَّ ما قبلَها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ.
والثاني: وهو قولُ الكوفيين أنها المخففةُ من الثقيلة، وشَذَّ وقوعُها موقعَ الناصبةِ، كما شذَّ وقعُ "أَنْ" الناصبةِ موقعَها في قوله:

991 ـ ............ قد علموا أَنْ لا يُدانِينَا في خَلْقهِ أحدُ

وقرأ مجاهد: "الرَّضْعَة" بوزن القَصْعة. والرَّضْعُ: مَصُّ الثَّدْي: ويقال للَّئيم: راضعٌ، وذلك أنه يَخاف أن يَحْلُبَ الشاةَ فَيُسْمَعَ منه الحَلْبُ، فَيُطْلَبَ منه اللبنُ، فَيَرْتَضِعُ ثديَ الشاةِ بفَمِه.
قوله: { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ } هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، والمبتدأ قولُه: "رِزْقُهن"، و "أل" في المولودِ موصولةٌ، و "له" قائمٌ مقامَ الفاعل للمولودِ، وهو عائدُ الموصولِ، تقديرُه: وعلى الذي وُلِدَ له رِزْقُهُنَّ، فَحُذِف الفاعلُ وهو الوالداتُ، والمفعولُ وهو الأولادُ، وأُقيمَ هذا الجارُّ والمجرورُ مُقامَ الفاعلِ.
وذَكَر بعضُ الناسِ أنه لا خلافَ في إقامةِ الجارِّ والمجرور مُقامَ الفاعلِ إلا السهيلي، فإنهَ مَنَع من ذلك. وليس كما ذَكَر هذا القائلُ، وأنا أبسُطُ مذاهبَ الناسِ في هذه المسألةِ، فأقول بعونِ الله: اختلف الكوفيون والبصريون في هذه المسألةِ فأجازها البصريون مطلقاً، وأما الكوفيون فقالوا: لا يَخْلو: إمَّا أن يكونَ حرفُ الجر زائداً فيجوزَ ذلك نحو: ما ضُرب من أحد، وإن كان غيرَ زائدٍ لم يَجُزْ ذلك عندَهم، ولا يجوزُ عندَهم أن يكونَ الاسمُ المجرورُ في موضعِ رفعٍ باتفاقٍ بينهم. ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاقِ في القائمِ مقامَ الفاعل: فذهب الفراء إلى أنَّ حرفَ الجرِّ وحدَه في موضعِ رفعٍ، كما أنَّ "يقوم" من "زيد يقوم" في موضع رفعٍ. وذهب الكسائي وهِشام إلى أنَّ مفعولَ الفعلِ ضميرٌ مستترٌ فيه، وهو ضَميرٌ مبهمٌ من حيثُ أَنْ يرادَ به ما يَدُلُّ عليه الفعلُ من مصدر وزمانٍ ومكانٍ ولم يَدُلَّ دليلٌ على أحدِها، وذهب بعضُهم إلى أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرُ المصدرِ، فإذا قلت: "سِيرَ بزيدٍ" فالتقديرُ: سير هو، أي: السيرُ، لأنَّ دلالةَ الفعلِ على مصدرهِ قويةٌ، وهذا يوافِقُهم فيه بعضُ البصريين. ولهذه الأقوالِ دلائلُ واعتراضاتٌ وأجوبةٌ لا يحتملها هذا الموضوعُ فَلْيُطْلب من كتبِ النَّحْويين.
قوله: { بِٱلْمَعْرُوفِ } يجوز أن يتعلَّقَ بكلٍّ مِنْ قولِه: "رزقُهنَّ" و "كسوتُهنَّ" على أن المسألة من بابِ الإِعمالِ، وهو على إعمالِ الثاني، إذ لو أُعْمِل الأولُ لأُضْمِر في الثاني، فكان يقال: وكسوتهنَّ به بالمعروفِ. هذا إنْ أُريد بالرزقِ والكسوةِ المصدران، وقد تقَدَّم أنَّ الرزقَ يكون مصدراً، وإنْ كانَ ابنُ الطراوةِ قد رَدَّ على الفارسي ذلك في قوله:
{ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [النحل: 73] كما سيأتي تحقيقُه في النحل، وإنْ أريدَ بهما اسمُ المرزوقِ والمكسوِّ كالطِّحْن والرِّعْي فلا بدَّ من حذفِ مضافٍ، تقديرُه: اتِّصالُ أو دفعُ أو ما أشبهَ ذلك مِمَّا يَصِحُّ به المعنى، ويكونُ "بالمعروف" متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ منهما. وجَعَلَ أبو البقاء العاملَ في هذه الحالِ الاستقرار الذي تَضَمَّنه "على".
والجمهورُ على "كِسْوَتِهِنَّ" بكسر الكاف، وقرأ طلحة بضمها، وهما لغتان في المصدر واسم المكسوِّ، وفعلُها يتعدَّى لاثنين، وهما كمفعولّيْ "أعطى" في جوازِ حَذْفِهما أو حَذْفِ أحدِهما اختصاراً أو اقتصاراً. قيل: وقد يتعدَّى إلى وَاحدٍ وأنشدوا:

992 ـ وَأْركَبُ في الروعِ خَيْفانَةً كسا وجَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ

ضَمَّنه معنى غَطَّى. وفيه نظرٌ لاحتمالِ أنه حُذِف أحدُ المفعولين للدلالةِ عليه، أي: كسا وجهَها غبارٌ أو نحوه.
قوله: { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ } الجمهورُ على "تُكَلَّفُ" مبنياً للمفعولِ، "نفسٌ" قائمٌ مقامَ الفاعلِ وهو الله تعالى، "وُسْعَها" مفعولٌ ثانٍ، وهو استثناءٌ مفرغٌ، لأنَّ "كَلَّفَ" يتعدَّى لاثنين. قال أبو البقاء: "ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا لم يَجُزْ لأنه ليس ببدَلٍ".
وقرأ أبو رجاء: { لاَ تَكَلَّفُ نفسٌ } بفتح التاءِ والأصلُ: "تتكلف" فَحُذِفَتْ إحدى التاءين تخفيفاً: إمَّا الأولى أو الثانيةُ على خلافٍ في ذلك تقدَّم، فتكونُ "نفسٌ" فاعلاً، و "وُسْعَها" مفعول به، استثناء مفرغاً أيضاً. وَرَوى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضاً: { لا يُكَلِّفُ نفساً } بإسناد الفعلِ إلى ضميرِ الله تعالى، فتكونُ "نفساً" و "وُسْعَها" مفعولَيْنِ.
والتكليفُ: الإِلزامُ، وأصلُه من الكَلَفِ، وهو الأثرُ من السَّوادِ في الوجهِ، قال:

993 ـ يَهْدِي بها أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبِرٌ من الجِمالِ كثيرُ اللَّحْمَ عَيْثُومُ

وَفلانٌ كَلِفٌ بكذا: أي مُغْرىً به.
وقوله: { لاَ تُضَآرَّ }/ ابنُ كثير وأبو عمرو: "لا تضارُّ" برفع الراء مشددةً، وتوجيهُها واضحٌ، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يَدْخُلْ عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فَرُفِعَ، وهذه القراءةُ مناسِبَةٌ لِما قبلِهَا من حيث إنه عَطَفَ جملةً خبريةً على خبريةً لفظاً نَهْيِيَّةٌ معنى، ويدل عليه قراءةُ الباقين كما سيأتي. وقرأ باقي السبعة بفتح الراءِ مشددةً، وتوجيهُها أنَّ "لا" ناهيةٌ فهي جازمةٌ، فَسَكَنَتِ الراء الأخيرةُ للجزمِ وقبلَها راءٌ ساكنةٌ مدغمةٌ فيها، فالتقى ساكنان فَحَرَّكْنا الثانيةَ لا الأولى، وإنْ كان الأصلُ الإِدغامَ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً وإنْ كانَ أصلُ التقاءِ الساكنينِ الكسرَ لأجلِ الألفِ إذ هي أختُ الفتحةِ، ولذلك لَمَّا رَخَّمَتِ العربُ "إسحارّ" وهو اسمُ نباتٍ قالوا: "إسحارَ" بفتح الراء خفيفةً، لأنهم لمَّا حَذَفوا الراءَ الأخيرةَ بقيتِ الراءُ الأولى ساكنةً والألفُ قبلَها ساكنةٌ فالتقى ساكنان، والألفُ لا تقبلُ الحركَةَ فحَرَّكوا الثاني وهو الراءُ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً لأجلِ الألفِ قبلَها، ولم يَكْسِروا وإنْ كان الأصلَ، لما ذكرْتُ لك من مراعاةِ الألف.
وقرأ الحسن بكسرِها مشددةً، على أصلِ التقاءِ الساكنين، ولم يُراعِ الألفَ، وقرأ أبو جعفرٍ بسكونِها مشددةً كأنه أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ فسكَّنَ، ورُوِي عنه وعن ابن هرمز بسكونِهَا مخففةً، وتَحْتمل هذه وجهين، أحدهما: أن يكونَ من ضارَ يَضير، ويكونُ السكونُ لإِجراءِ الوصلِ مُجْرى الوقف. والثاني: أن يكونَ من ضارَّ يُضارُّ بتشديد الراءِ، وإنما استثقل تكريرَ حرفٍ هو مكررٌ في نفسِه فَحَذَفَ الثانيَ منهما، وَجَمَع بين الساكنين - أعني الألفَ والراء - إمَّا إجراءً للوصلِ مُجْرى الوقفِ، وإمَّا لأنَّ الألفَ قائمةٌ مقامَ الحركةِ لكونِها حرفَ مَدٍّ.
وزعم الزمخشري "أن أبا جعفر إنما اختلس الضمة فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ، وليس كذلك" انتهى. وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند
{ يَأْمُرُكُمْ } [البقرة: 67] ونحوه.
ثم قراءةُ تسكينِ الراء تحتملُ أَنْ تكونَ مِنْ رفعٍ فتكونَ كقراءةِ ابن كثير وأبي عمرو، وأن تكونَ من فَتْح فتكونَ كقراءةِ الباقين، والأولُ أَوْلى، إِذ التسكينُ من الضمةِ أكثرُ من التسكينِ من الفتحةِ لخفتها.
وقرأ ابن عباس بكسر الراءِ الأولى والفكِّ، ورُوي عن عمر ابن الخطاب: "لا تضارَرْ" بفتح الراء الأولى والفك، وهذه لغةُ الحجاز أعني [فكَّ] المِثْلين فيما سَكَنَ ثانيهما للجزمِ أو للوقفِ نحو: لم تَمْرُرْ، وامرُرْ، وبنو تميم يُدْغِمون، والتنزيلُ جاء باللغتين نحو: { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ } [المائدة: 54] في المائدةِ، قُرىء في السبعِ بالوجهين وسيأتي بيانُه واضحاً.
ثم قراءةُ مَنْ شَدَّد الراءَ مضمومةً أو مفتوحةً أو مكسورةً أو مُسْكَّنةُ أو خَفَّفها تحتملُ أن تكونَ الراءُ الأولى مفتوحةً، فيكونُ الفعلُ مبنياً للمفعول، وتكونُ "والدةٌ" مفعولاً لم يُسَمَّ فاعله، وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْمِ به، ويؤيده قراءةُ عمرَ رضي الله عنه. وأَنْ تكونَ مكسورةً فيكونُ الفعلُ مبنياً للفاعلِ، وتكونُ "والدةٌ" حينئذ فاعلاً به، ويؤيده قراءةُ ابنِ عباس.
وفي المفعولِ على هذا الاحتمالِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدهما - وهو الظاهر - أنه محذوفٌ تقديرُه: "لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها بسسبِ ولدِها بما لا يَقْدِرُ عليه من رزقٍ وكِسْوةٍ ونحو ذلك، ولا يضارِرْ مولودٌ له زوجتَه بسبب ولدِه بما وَجَبَ لها من رزقٍ وكسوةٍ، فالباءُ للسببيةِ. والثاني: - قاله الزمخشري - أن يكونَ "تُضارَّ" بمعنى تَضُرُّ، وأن تكونَ الباءُ من صلتِه أي: لا تضرُّ والدةٌ بولِدها فلا تسيءُ غذاءه وتعهُّدَه ولا يَضُرُّ الوالدُ به بأن ينزِعه منها بعدما ألِفَها." انتهى. ويعني بقولِه "الباءُ من صلته" أي: تكونَ متعلقةً به ومُعَدِّيةً له إلى المفعول، كهي في "ذهبت بزيدٍ" ويكونُ ضارَّ بمعنى أضرَّ فاعَلَ بمعنى أَفْعَل، ومثلُه: ضاعفْتُ الحِسابَ وأَضْعَفْتُه، وباعَدْته وأبعدْتُه، وقد تقدَّم أن "فاعَلَ" يأتي بمعنى أَفْعَل فيما تقدَّم، فعلى هذا نفسُ المجرور بهذه الباءِ هو المفعول به في المعنى، والباءُ على هذا للتعديةِ، كما ذكرْتُ في التنظيرِ بذَهَبْتُ بزيدٍ، فإنه بمعنى أَذْهبته.
والثالث: أن الباءَ مزيدةٌ، وأنَّ "ضارَّ" بمعنى ضَرَّ، فيكون "فاعَلَ" بمعنى "فعَلَ" المجردِ، والتقديرُ: لا تَضُرُّ والدةٌ ولدَها بسوءِ غذائِه وعَدَم تعهُّدِه، ولا يَضُرُّ والدٌ ولدَه بانتزاعِه من أمه بعدما أَلِفهَا ونحوِ ذلك. وقد جاء "فاعَل" بمعنى فَعَل المجرد نحو: واعَدْته ووعَدْتُه، وجاوَزْته وجُزْته، إلا أنَّ الكثيرَ في فاعَل الدلالةُ على المشاركةِ بين مرفوعِه ومنصوبِه، ولذلك كان مرفوعهُ منصوباً في التقدير، ومنصوبُه مرفوعاً في التقدير، فمن ثَمَّ كانَ التوجيهُ الأولُ أرجحَ مِنْ توجيهِ الزمخشري وما بعدَه، وتوجيهُ الزمخشري أَوْجَهَ مِمَّا بعدَه.
و "له" في محلِّ رفعٍ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ.
وقوله: { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } فيه دلالةٌ على ما يقولُه النحويون، وهو أنه إذا اجتمع مذكرٌ ومؤنثٌ، معطوفاً أحدُهما على الآخرِ كان حكمُ الفعلِ السابِق عليهما للسابِق منهما، تقول: قامَ زيدٌ وهندٌ، فلا تُلْحِقُ علامةَ تأنيثٍ، وقامَتْ هندٌ وزيدٌ، فتلحقُ العلامةَ، والآيةُ الكريمة من هذا القبيل، ولا يُستثنى من ذلك إلاَّ أَنْ يكونَ المؤنثُ مجازياً، فَيَحْسُنُ الاَّ يراعي المؤنثُ وإنْ تقدَّم كقوله تعالى:
{ وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [القيامة: 9].
ولا يَخْفى ما في هذه الجملِ من علمِ البيان، فمنه: الفصلُ والوصلُ/ أمَّا الفصلُ وهو عدمُ العطفِ بين قولِه: { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ } وبين قوله: "لا تضارَّ" لأنَّ قوله: "لا تُضارَّ" كالشرحِ للجملةِ قبَلها، لأنه إذا لَمْ تُكَلَّفِ النفسُ إلا طاقَتَها لم يقع ضررٌ، لا للوالدة ولا للمولود له. وكذلك أيضاً لم يَعْطِف { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ } على ما قبلَها، لأنها مع ما بعدَها تفسيرٌ لقوله "بالمعروفِ". وأمَّا الوصلُ وهو العطفُ بين قوله: "والوالداتُ يُرْضِعْنَ" وبين قولِه: "وعلى المولودِ له رزقُهن" فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى. ومنه إبراز الجملةِ الأولى مبتدأ وخبراً، وجَعْلُ الخبرِ فعلاً، لأنَّ الإِرضاع إنما يتجدَّدُ دائماً. وأُضيفت الوالداتُ للأولاد تنبيهاً على شفقتهنَّ وحَثَّاً لهنَّ على الارضاع. وجيء بالوالدات بلفظِ العموم وإنْ كان جمعَ قلة، لأنَّ جمعَ القلةِ متى حُلِّي بأَل عمَّ، وكذلك "أولادَهُنَّ" عامٌّ، لإِضافته إلى ضمير العامِّ، وإنْ كان أيضاً جمع قلةٍ. ومنه إبرازُ الجملةِ الثانيةِ مبتدأً وخبراً، والخبرُ جارٌّ ومجرورٌ بحرفِ "على" الدالِّ على الاستعلاء المجازي في الوجوبِ وقُدِّم الخبرُ اعتناءً به. وقُدِّم الرزْقُ على الكسوةِ لأنه الأهمُّ في بقاءِ الحياةِ ولتكرره كلَّ يومٍ. وأُبرزت الثالثة فعلاً ومرفوعَه، وجُعِل مرفوعُه نكرةً في سياقِ النفي ليعمَّ ويتناولَ ما سبقَ لأجله من حكم الوالدات في الإِرضاع والمولود له في الرزق والكِسْوة الواجبَتَيْنِ عليه للوالدةِ، وأُبْرِزَت الرابعةُ كذلك لأنها كالإِيضاح لما قبلها والتفصيلِ بعد الإِجمال، ولذلك لم يُعْطَفْ عليها كما ذَكَرْتُه لك. ولَمَّا كان تكليفُ النفسِ فوق الطاقة ومُضَارَّةُ أحدِ الزوجينِ للآخر مِمّ يتكرَّر ويتجدَّدُ أتى بهاتين الجملتين فعليتين وأَدْخَلَ عليهما حرف النفي وهو "لا" لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً.
وأمَّا في قراءة مَنْ جَزَمَ فإنَّها ناهيةٌ، وهي للاستقبالِ فقط، وأضافَ الولدَ إلى الوالدة والمولودِ له تنبيهاً على الشفقةِ والاستعطافِ، وقدَّمَ ذِكْرَ عدم مُضَارَّةِ الوالد مراعاةً لِمَا تقدَّم من الجملتين، إذ قد بدأ بحكمِ الوالداتِ وثَنَّى بحكمِ الوالدِ. ولولا خوفُ السآمةِ وأنَّ الكتابَ غيرُ موضوعٍ لهذا الفنِّ لذكرْتُ ما تَحتمِلُه هذه الآية الكريمةُ من ذلك.
قولُه: { وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ } هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، قَدَّم الخبرَ اهتماماً، ولا يَخْفَى ما فيها، وهي معطوفةٌ على قولِه: { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتفسيرِ لقوله "بالمعروف" كما تقدَّم التنبيهُ عليه.
والألفُ واللامُ في "الوارث" بدلٌ من الضميرِ عندَ مَنْ يَرى ذلك، ثم اختلفوا في ذلك الضمير: هل يعودُ على المولود له وهو الأبُ، فكأنه قيل: وعلى وارِثِه، أي: وارِثِ المولدِ له، أو يعودُ على الولدِ نفسه، أي: وارثِ الولد؟ وهذا على حَسَبِ اختلافِهم في الوارثِ.
وقرأ يحيى بن يعمر: "الوَرَثَة" بلفظ الجمعِ، والمشارُ إليه بقوله "مثلُ ذلك" إلى الواجبِ من الرزق والكسوة، وهذا أحسنُ مِنْ قول مَنْ يقول: أُشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحدِ للاثنين كقوله:
{ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ } [البقرة: 68]. وإنما كان أحسنَ لأنه لا يُحْوِج إلى تأويل، وقيل: المشارُ إليه هو عَدَمُ المُضَارَّة، وقيل: أجرةُ المثلِ، وغيرُ ذلك.
قوله: { عَن تَرَاضٍ } فيه وجهان، أحدُهما: - وهو الظاهر - أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ إذ هو صفةٌ لـ"فِصالاً"، فهو في محلِّ نصبٍ أي: فصالاً كائناً عن تراضٍ، وقدَّره الزمخشري: صادراً عن تراضٍ، وفيه نظرٌ من حيث كونُه كوناً مقيَّداً. والثني: أنه متعلَّقٌ بأراد، قاله أبو البقاء، ولا معنى له إلاَّ بتكلفٍ. و "عن" للمجاوزة مجازاً لأنَّ التراضيَ معنىً لا عينٌ.
و "تراض" مصدرُ تفاعَل، فعينُه مضمومةٌ وأصله: تفاعُل تراضُوٌ، فَفُعِل فيه ما فُعِل بـ"أَدْلٍ" جمعَ دَلْوٍ، مِنْ قلبِ الواو ياءً والضمةِ قلبِها كسرةً، إذ لا يوجَدُ في الأسماءِ المعربةِ واوٌ قبلَها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويُفْعَلُ بها ذلك تخفيفاً.
قوله { مِّنْهُمَا } في محلِّ جرٍّ صفةً لـ"تَراضٍ"، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي تراضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما. و "مِنْ لابتداء الغايةِ.
وقوله: { وَتَشَاوُرٍ } حُذِفَتْ لدلالةِ ما قبلَها عليها والتقدير: وتشاورٍ منهما، ويُحْتَمَل أَنْ يكونَ التشاوُرُ من أحدِهما مع غيرِ الآخر لتتفق الآراءُ منهما ومِنْ غيرِهما على المصلحةِ.
قوله: { فَلاَ جُنَاحَ } الفاءُ جوابُ الشرطِ، وقد تقدَّم نظيرُ هذه الجملة، ولا بُدَّ قبلَ هذا الجواب من جملةٍ قد حُذِفَت ليصحَّ المعنى بذلك تقديرُه: فَفَصَلاه أو فَعَلا ما تراضيا عليه فلا جُناحَ عليهما في الفِصال أو في الفَصْلِ.
قوله: { أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ } أنْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً بـ"أراد" وفي "استرضع" قولان للنحْويين، أحدُهما: أنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرف الجرِّ، والتقديرُ: أَنْ تسترضعوا المراضعَ لأولادِكم، فَحُذِف المفعولُ الأول وحرفُ الجر من الثاني، فهو نظيرُ "أمرتُ الخيرَ"، ذكرْتَ المأمورَ به لوم تَذْكُرِ المأمورَ، لأنَّ الثاني منهما غيرُ الأول، وكلُّ مفعولين كانا كذلك فأنتَ فيهما بالخيار بين ذِكْرِهما وحَذْفِهما، وذِكْرِ الأولِ، دونَ الثاني والعكس. والثاني: أنه متعدٍّ إليهما بنفسِه، ولكنه حُذِفَ المفعولُ الأولُ وهذا رأيُ الزمخشري، ونَظَّر الآية الكريمة بقولك: "أنجح الحاجة" واستَنْجَحَتْه الحاجة" وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ، لأنَّ الأصلَ/ "رَضِعَ الولدُ"، ثم تقول: "أَرْضَعَت المرأةُ الولدَ"، ثم تقول: "استرضَعْتُها الولد" هكذا قال الشيخ.
وفيه نظرٌ، لأنَّ قولَه "رضِع الولدُ" يُعتقدُ أنَّ هذا لازمٌ ثمَ عَدَّيْتَه بهمزةِ النقلِ، ثمَ عَدَّيْتَه ثانياً بسينِ الاستفعال، وليس كذلك لأنَّ "رَضِع الولدُ" متعدٍّ، غاية ما فيه أنَّ مفعولَه غيرُ مذكورٍ تقديرُه: رَضِع الولدُ أمَّه، لأنَّ المادةَ تقتضي مفعولاً به كضَربَ، وأيضاً فالتعديةُ بالسين قولٌ مرغوب عنه. والسينُ للطلبِ على بابها نحو: استسقيتُ زيداً ماءً واستطْعَمْته خبزاً، فكما أنَّ ماءٌ وخبزاً منصوبان لا على إسقاط الخافضِ كذلك "أولادكم". وقد [جاء] استفعل للطلب وهو مُعَدَّى إلى الثاني بحرف جر، وإن كان "أَفْعَل" الذي هو أصلُه متعدِّياً لاثنين نحو: "أفهمني زيدٌ المسألةَ" واستفهمتُه عنها، ويجوز حَذْفُ "عن"، فلم يَجِىءْ مجيء "استَسْقَيْت" و "استطعمت" من كونِ ثانيهما منصوباً على لا على إسقاطِ الخافض.
وفي هذا الكلام التفاتٌ وتكوينٌ: أمَّا الالتفاتُ فإنه خروجٌ من ضميرِ الغَيْبةِ في قوله "فإنْ أرادوا" إلى الخطابِ في قولِه: "وإنْ أردْتُم" إذا المخَاطَبُ الباءُ والأمهاتُ. وأمَّا التكوينُ في الضمائِر فإنَّ الأول ضميرُ تثنيةٍ وهذا ضميرُ جمعٍ، والمرادُ بهما الآباءُ والأمهاتُ أيضاً، وكأنه رَجَعَ بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولودِ له، ولكنه غَلَّب المذكَّرَ وهو المولودُ له، وإنْ كان مفرداً لفظاً. و "فلا جُناحَ" جوابُ الشرط.
قوله: { إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم } "إذا" شرطٌ حُذِفَ جوابُه لدلالةِ الشرطِ الأولِ وجوابِه عليه، قال أبو البقاء: "وذلك المعنى هو العاملُ في "إذا" وهو متعلقٌ بما تَعَلَّق به "عليكم". وهذا خطأٌ في الظاهرِ، لأنه جَعَلَ العاملَ فيها أولاً ذلك المعنى المدولَ عليه بالشرطِ الأولِ. وجوابِه، فقولُه ثانياً "وهو متعلقٌ بما تعلَّقَ به عليكم" تناقضٌ، اللهم إلا أن يُقالَ: قد يكونُ سقطت من الكاتب ألفٌ، وكان الأصلُ "أو هو متعلقٌ" فَيَصِحُّ، إلا أنه إذا كان كذلك تمحَّضَتْ "إذا" للظرفية، ولم تكنْ للشرطِ، وكلامُ هذا القائِل يُشْعر بأنها شرطيةٌ في الوجهينِ على تقدير الاعتذارِ عنه.
وقرأ الجمهور: "آتيتم" بالمدِّ هنا وفي الروم:
{ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً } [الروم: 39]، وقَصَرَهما ابنُ كثير. ورُوي عن عاصم "أوتيتم" مبنياً للمفعول، أي: ما أَقْدَرَكم الله عليه. فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فواضحةٌ لأنَّ آتى بمعنى أعطى فهي تتعدَّى لاثنين أحدُهما ضميرٌ يعودُ على "ما" الموصولةِ، والآخر ضميرٌ يعودُ على المراضعِ، والتقديرُ: ما آتيتموهنَّ إياه، فـ"هُنَّ" هو المفعولُ الأول، لأنه فاعلٌ في المعنى، والعائدُ هو الثاني، لأنه هو المفعولُ في المعنى. والكلامُ على حذفِ هذا الضمير وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإِشكال والجوابُ عند قوله: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3] فَلْيُلْتفتْ إليه.
وأمَّا قراءةُ القصرِ فمعناها جِئْتم وفَعَلْتُم كقولِ زهير:

994 ـ وما كان مِن خيرٍ أَتَوْه فإنَّما توارَثَهُ آباءُ آبائِهم قَبْلُ

أي: فعلوه، والمعنى إذا سَلَّمتم ما جِئْتُمُ وفَعَلْتُم، قال أبو علي: "تقديرُ: ما أتيتم نَقْدَه أو إعطاءه، فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهو عائدُ الموصول، فصار: آتيتموه أي جئتموه، ثم حُذِفَ عائدُ الموصولِ". وأجاز أبو البقاء أن يكونَ التقديرُ: ما جِئْتُم به فَحُذِفَ، يعني حُذِف على التدريج، بأنَّ حُذِفَ حرف الجر أولاً فاتصل الضمير منصوباً بفعلٍ فَحُذِفَ.
و "ما" فيها وجهان، أظهرهُما: أنها بمعنى الذي، وأجاز أبو عليّ فيها أن تكون موصولةً حرفيةً، ولكنْ ذَكَر ذلك مع قراءةِ القصرِ خاصة، والتقدير: إذا سَلَّمتم الإِتيان، وحينئذٍ يُسْتَغْنَى عن ذلك الضمير المحذوف. ولا يختصُّ ذلك بقراءة القصرِ، بل يجوزُ أن تكونَ مصدريةً مع المدِّ أيضاً على أَن المصدرَ واقعٌ موقع المفعولِ، تقديرُه: إذا سلَّمتم الإِعطاء، أي المُعْطَى والظاهرُ في "ما" أن يكونَ المرادُ بها الأجرةَ التي تُعْطاها المرضعُ، والخطابُ على هذا في قولِه: "سَلَّمتم" و "آتيتم" للآباء خاصةً، وأجازوا أن يكونَ المرادُ بها الأولادَ، قاله قتادة والزهري. وفيه نظرٌ من حيث وقوعُها على العقلاء، وعلى هذا فالخطابُ في "سَلَّمتم" للآباء والأمهاتِ.
وقرأ عاصم في رواية شيبان: "أُوتيتم" على البناء للمجهول ومعناه: ما آتاكم الله وأَقْدركم عليه من الأجرة، وهو في معنى قولِه تعالى:
{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } } [الحديد: 7] قوله: { بِٱلْمَعْرُوفِ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّق بـ"سَلَّمْتم" أي: بالقولِ الجميلِ. والثاني: أنْ يتعلَّق بـ"آتيتم"، والثالثُ: أن يكونَ حالاً من فاعل "سَلَّمْتم" أو "آتيتم"، فالعاملُ فيه حينئذٍ محذوفٌ أي: ملتبسين بالمعروفِ.