التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٢٤٣
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ }: هذه همزةُ الاستفهامِ دَخَلَتْ على حرفِ النفيِ، فَصَيَّرَتِ النفيَ تقريراً، وكذا كلُّ استفهامٍ دخَلَ على نفي نحو: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الانشراح: 1] { { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] فيمكن أن يكونَ المخاطبُ عَلِمَ بهذه القصةِ قبلَ نزولِ هذه الآيةِ، فيكونُ التقريرُ ظاهراً أي: قد رأيتَ حالَ هؤلاء، ويمكن أنه لم يَعْلَمْ بها إلا مِنْ هذه الآيةِ، فيكون معنى هذا الكلامِ التنبيهَ والتعجُّبَ من حالِ هؤلاءِ، والمخاطَبُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمَ أو كُلُّ سامِعٍ. ويجوزُ أن يكونَ المرادُ بهذا الاستفهام التعجبَ من حالِ هؤلاءِ، وأكثرُ ما يَرِدُ كذلك: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً } [المجادلة: 14] { { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ } [الفرقان: 45]، وقالَ الشاعر:

1012 ـ ألم تَرَ أني كلما جِئْتُ طارِقاً وَجَدْتُ بها طِيباً وإنْ لم تَطَيَّبِ

والرؤية هنا عِلْمية فكانَ من حَقِّها أن تتعدَّى لاثنين، ولكنها ضُمِّنَتْ معنى ما يتعدَّى بإلى، والمعنى: ألم ينته علمُك إلى كذا. وقال الراغب: "رأيت: يتعدَّى بنفسه دونَ الجارِّ، لكن لما استعيرَ قولُهم: "ألم تَرَ" بمعنى ألم تَنْظُر عُدِّيَ تعديتَه، وقَلَّما يُستعمل ذلك في غيرِ التقديرِ، لا يُقال: رأيت إلى كذا".
وقرأ السلمي: "تَرْ" بسكون الراء، وفيها وجهان، أحدُهما: أنه تَوَهَّم أن الراءَ لامُ الكلمةِ فسَكَّنَهَا للجزمِ كقولِهِ:

1013 ـ قالَتْ سُلَيْمَى اشترْ لنا سَوِيقاً واشترْ فَعَجِّل خادِماً لَبِيقا

وقيل: هي لغة قوم، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلة. والثاني: أنه أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف، وهذا أَوْلى فإنه كثيرٌ في القرآنِ نحوُ: "الظنونا" و "الرسولا" و "السبيلا" و "لم يَتَسَنَّهْ"وبهداهم اقتده" وقوله: "ونُصْلِهِ" و "نؤته" و "يُؤدّه"، وسيأتي ذلك.
قوله: { وَهُمْ أُلُوفٌ } مبتدأٌ وخبرٌ، وهذه الجملةُ في [موضع] نصبٍ على الحال، وهذا أحسنُ مجيئِها، إذ قد جُمَعَ فيها بين الواوِ والضمير. و "أُلوفٌ" فيه قولان، أظهرُهُما: أنه جمعُ "أَلْف" لهذا العَدَدِ الخاصِّ وهو جَمْعُ كثرةٍ، وجمعُ القلةِ: آلاف كحُمول وأَحْمال. والثاني: أَنه جَمْعُ "آلِف" على فاعِل كشاهد وشُهود وقاعِد وقُعود. أي: خَرَجوا وهم مؤتلفون، قال الزمخشري: "وهذا من بِدَع التفاسير".
قوله: { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } مفعولٌ من أجلِهِ، وفيه شروطُ النصبِ، أعني المصدريةَ واتحادَ الفاعلِ والزمانِ./
قوله: { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } فيه وجهانِ، أحدُهما: أنه معطوفٌ على معنى: فقالَ لهم اللَّهُ: موتوا، لأنه أَمْرٌ في معنى الخبرِ تقديرُهُ: فأماتَهُم اللَّهُ ثم أحياهُمْ. والثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ، تقديرهُ: فماتوا ثم أحياهم، و "ثم" تقتضي تراخي الإِحياءِ عن الإِماتَةِ. وألفُ "أحيا" عن ياء، لأنه من "حَيِيَ"، وقد تقدَّم تصريفُ هذه المادةِ عند قولِه:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } } [البقرة: 26] قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ } أَتَى بهذه الجملةِ مؤكَّدة بـ"إنَّ" واللام، وأتى بخبرِ "إنَّ": "ذو" الدالة على الشرفِ بخلافِ "صاحب". و "على الناسِ" متعلقٌ بفَضْل. تقول: تَفَضَّل فلان عليَّ، أو بمحذوفٍ لأنه صفة له فهو في محل جر، أي: فضلٍ كائنٍ على الناس. وأل في الناسِ للعمومِ، وقيل للعهدِ، والمرادُ بهم الذين أماتهم.
قوله: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ } هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قولُهُ { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ }، لأنَّ تقديرَه: فيجِبُ عليهم أَنْ يشكُروا لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ والرزق، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ.