التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ
٢٧
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ }.. فيه أربعة أوجهٍ، أحدُها: أنْ يكونَ نعتاً للفاسِقين. والثاني: أنه منصوبٌ على الذمِّ. والثالث أنه مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه الجملةُ من قوله: { أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }. والرابع: أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: هم الفاسقون.
والنَّقْضُ: حَلُّ تركيب الشيءِ والرجوعُ به إلى الحالة الأولى. والعهدُ في كلامِهم على معانٍ منها: الوصيةُ والضمانُ والاكتفاءُ والأمرُ. والخَسار: النقصانُ في ميزان أو غيره، قال جرير:

316ـ إنَّ سَليطاً في الخسار إنَّهْ أولادُ قومٍ خُلِقوا أَقِنَّهْ

وخَسَرْتُ الشيء ـ بالفتح ـ وأَخَسَرْتُه نَقَصْتُه، والخُسْران والخَسار والخَيْسَرىٰ كلُّه بمعنى الهلاك.
و "مِنْ بعد" متعلقٌ بـ "يَنْقْضُون"، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، وقيل: زائدةٌ وليس بشيء. و "ميثاقَه" الضميرُ فيه يجوزُ أن يعودَ على العهدِ، وأن يعودَ على اسم الله تعالى، فهو على الأول مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، وعلى الثاني مضافٌ للفاعل، والميثاقُ مصدرٌ كالميلادِ والميعادِ بمعنى الولادةِ والوَعْد، وقال ابنُ عطية: "وهو اسمٌ في موضعِ المصدرِ كقولِهِ:

317ـ أكُفْراً بعدَ رَدِّ الموتِ عني وبعد عطائِك المئةَ الرِّتاعا

أي: إعطائك"، ولا حاجة تدعُو إلى ذلك. والمادةُ تَدُلُّ على الشَدِّ والربطِ وجمعُه مواثيق ومياثِق وأنشد ابن الأعرابي:

318ـ حِمىً لا يَحُلُّ الدهرُ إلا بإذنِنا ولا نَسْأَل الأقوامَ عهدَ المَيَاثِقِ

و "يقطعونَ" عطف على "ينقصون" فهي صلةٌ أيضاً، و "ما" موصولةٌ، و { أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ } صلتُها وعائدُها. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً، ولا يجوز أن تكونَ مصدرِيَّةً لعَوْدِ الضميرِ عليها إلا عند أَبي الحسن وابن السراج، وهي مفعولةٌ بيَقْطَعون.
قوله: { أَن يُوصَلَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: الجرُّ على البدلِ من الضمير في "به" أي: ما أمرَ اللهُ بوَصْلِهِ، كقول امرئ القيس:

319ـ أمِنْ ذِكْرِ ليلى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ فَتَقْصُرُ عنها خَطْوَةً وتَبُوصُ

أي: أمِنْ نَأْيِها. والنصبُ وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلٌ من ما أمر اللهُ بدلُ اشتمالٍ. والثاني: أنه مفعولٌ من أجله، فقدَّره المهدوي: كراهةَ أن يُوصل، وقدَّرَهُ غيرُه: أن لا يُوصلَ. والرفع [على] أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ أي هو أن يُوصلَ، وهذا بعيدٌ جداً، وإنْ كان أبو البقاء ذَكَرَهُ.
و { يُفْسِدُونَ } عطفٌ على الصلةِ أيضاً و { فِي ٱلأرْضِ } متعلِّقٌ به. وقولُه { أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } كقولِهِ:
{ { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 5]. وقد تقدَّم أنه يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ خبراً عن { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ } إذا جُعِلَ مبتدأً، وإنْ لم يُجْعَلْ مبتدأ فهي مستأنفةٌ فلا محلَّ لها حينئذٍ. وتقدم معنى الخَسار، والأمرُ: طلبُ الأعلى من الأدنى.