التفاسير

< >
عرض

وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
٤
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ }: الذين عطفٌ على "الذين" قبلَها، ثم لك اعتباران: أن يكونَ من باب عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض كقوله:

121ـ إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ

وقوله:

122ـ يا ويحَ زيَّابَة للحارثِ ال صابحِ فالغانمِ فالآئِبِ

يعني: أنهم جامعونَ بين هذه الأوصافِ إن قيل إن المرادَ بهما واحدٌ.
والثاني: أن يكونوا غيرهم. وعلى كلا القولينِ فيُحكم على موضعِه بما حُكم على موضعِ "الذين" المتقدمة من الإِعرابِ رفعاً ونصباً وجَرًّا قَطْعاً واتباعاً، كما مرَّ تفصيله، ويجوز أن يكونَ عطفاً على "المتقين"، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه "أولئك" وما بعدها إن قيل إنهم غيرُ "الذين" الأولى، و "يؤمنون" صلةٌ وعائدٌ.
و "بما أُنْزِلَ" متعلِّقٌ به و "ما" موصولةٌ اسميةٌ، و "أُنْزِلَ" صلتُها وهو فِعْلٌ مبني للمفعول، والعائدُ هو الضميرُ القائمُ مقامَ الفاعلَ، ويَضْعُف أن يكونَ نكرةً موصوفةً، وقد منع أبو البقاء من ذلك، قال: "لأنَّ النكرةَ الموصوفةَ لا عموم فيها، ولا يكمُل الإِيمانُ إلا بجميعِ ما أُنزل".
و "إليك" متعلِّقٌ بـ "أُنزل"، ومعنى "إلى" انتهاءُ الغاية، ولها معانٍ أُخَرُ: المصاحَبَةُ:
{ { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [النساء: 2]، والتبيين: { { رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ } [يوسف: 33]، وموافقة اللام وفي ومِنْ: { { وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ } [النمل: 33] أي لك: وقال النابغة:

123ـ فلاَ تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني إلى الناسِ مَطْلِيٌّ به القار أَجْرَبُ

أي في الناس، وقال الآخر:

124ـ .......................... أَيُسْقَى فلا يُرْوى إليَّ ابنُ أَحْمَرا

أي: لا يُرْوى مني، وقد تُزَادُ، قُرئ: "تَهْوَىٰ إليهم" بفتح الواو.
والكافُ في محلِّ جرٍّ، وهي ضميرُ المخاطبِ، ويتصلُ بها ما يَدُلُّ على التثنيةِ والجمعِ تذكيراً وتأنيثاً كتاءِ لمخاطب. والنزولُ: الوصول والحلولِ من غير اشتراطِ علوٍّ، قال تعالى:
{ { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } [الصافات: 177] أي حلَّ ووَصَل، و "ما" الثانيةُ وصلتُها عطفٌ على "ما" الأولى قَبلَها، فالكلامُ عليها وعلى صلتِها كالكلامِ على "ما" التي قبلَها، فَلْيُتأمَّلْ.
و "مِنْ قبلِك" متعلِّقٌ بـ "أُنْزِلَ"، و "مِنْ" لابتداء الغاية، و "قبل" ظرف زمان يقتضي التقدُّم، وهو نقيضٌ "بعد"، وكِلاهما متى نُكِّر أو أُضيف أُعْرِبَ، ومتى قُطع من الإِضافة لفظاً/ وأُرِيدت معنى بُني على الضم، فمِن الإِعرابِ قولُه:

125ـ فساغَ ليَ الشرابُ وكنت قَبْلاً أكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ

وقال آخر:

126ـ ونحن قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ فما شَرِبوا بَعْداً على لَذَّةً خَمْرا

ومن البناء قولُه تعالى: { { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [الروم: 4]، وزعم بعضُهم أن "قبل" في الأصل وصفٌ نابَ عن موصوفِه لُزوماً، فإذا قلت: "قمتُ قبلَ زيد" فالتقدير: قمت زماناً قبلَ زمانِ قيامِ زيدٍ، فحُذِف هذا كلُّه، ونَاب عنه "قبل زيد" وفيه نظرٌ لاَ يَخْفى على مُتَأمِّله.
واعلمْ أنَّ حكمَ فوق وتحت وعلى وأوَّل حكمُ قبل وبعد فيما تقدَّم، وقرئ: "بما أَنْزَلَ إليك" مبنيَّاً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو جبريلُ، وقُرئ أيضاً: أُنْزِلْ لَيْكَ بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكونَ سكَّن آخرَ الفعل كما سكَّنه الآخر في قوله:

127ـ إنما شِعْريَ مِلْحٌ قد خُلْط بجُلْجُلانْ

بتسكين "خُلْط" ثم حَذَف همزةَ "إليك"، فالتقى مثلان فَأَدْغَمَ.
و "بالآخرةِ" متعلِّقٌ بيوقنون، و "يُوقنون" خبرٌ عن "هم" وقُدِّم المجرورُ للاهتمام به كما قُدِّمَ المُنْفَقُ في قوله:
{ { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3] لذلك، وهذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفَتْ على الجملةِ الفعليةِ قبلَها فهي صلةٌ أيضاً، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } لأن وصفهم بالإِيقان بالآخرةِ أَوْقَعُ مِنْ وَصْفِهم بالإِنفاق من الرزقِ فناسَبَ التأكيدَ بمجيء الجملةِ الاسميةِ، أو لئلاَّ يتكرَّرَ اللفظُ لو قيلَ: ومِمَّا رَزَقْناهم هم ينفقون.
والإِيقانُ: تحقيقُ الشيء لوضوحِه وسكونِه يقال: يَقِنَ الماءُ إذا سَكَن فظهر ما تحته، وَيَقِنْتُ الأمر بكسر القاف، ويُوقنون مِنْ أَيْقَنَ بمعنى استيقن، وقد تقدَّم أن أَفْعَل تأتي بمعنى استفعل.
والآخرة: تأنيث آخِر المقابل لأوَّل، وهي صفةٌ في الأصلِ جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ والتقديرُ: الدار الآخرة أو النشأة الآخرة، وقد صُرِّح بهذين الموصوفين قال تعالى:
{ { وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ } [الأنعام: 32]، وقال: { { ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } [العنكبوت: 20] وقرئ يُؤْقِنُون بهمز الواو، كأنهم جَعَلوا ضمةَ الياء على الواوِ لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه، والواوُ المضمومةُ يَطَّرِدُ قلبُها همزةً بشروط: منها ألاَّ تكونَ الحركةُ عَارضةً، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها، وألاَّ يكونَ مُدْغماً فيها، وألاّ تكونَ زائدةً، على خلافٍ في هذا الأخير، وسيأتي أمثلةُ ذلك في سورة آل عمران على قوله: { { وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ } [آل عمران: 153]، فأجْرَوا الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلها مُجْرى المضمومةِ نفسِها لِما ذكرت ذلك، ومثلُ هذه القراءةِ قراءةُ قُنْبُل "بالسُّؤْقِ" [ص: 33]، و "على سُؤْقِه" [الفتح: 29]، وقال الشاعر:

128ـ أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى وجَعْدَةُ إذ أضاءَهُما الوَقودُ

بهمز "المُؤْقدين". وجاء بالأفعالِ ِالخمسة بصيغة المضارع دلالةً على التجدُّد والحُدوثِ وأنهم كلَّ وقتٍ يفعلون ذلك. وجاء بأُنْزِل ماضياً وإن كان إيمانُهم قبلَ تمامِ نزولهِ تغليباً للحاضرِ المُنَزَّلِ على ما لم يُنَزَّلُ، لأنه لا بد من وقوعه فكأنه نَزَل، فهو من باب قولهِ: { { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل: 1]، بل أقربُ منه لنزولِ بعضِهِ.