قوله تعالى: { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا }.. كقوله: { { فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا } [البقرة: 61] وقد تقدَّم. قوله: "ما هي"؟ ما استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ تقديرُه: أيُّ شيءٍ هي، و "ما" الاستفهاميةُ يُطْلَبُ بها شَرْحُ الاسم تارةً نحو: "ما العنقاءُ؟ [و] ماهيَّةُ المُسَمَّى أخرى نحو: ما الحركةُ. وقال السكاكي: "يَسْأَلُ بـ "ما" عن الجنسِ، تقولُ: ما عندك؟ أي: أيُّ أجناسِ الأشياءِ عندك، وجوابُه: كتابٌ ونحوه، أو عن الوصف، تقول: ما زيدٌ؟ وجوابه: كريمٌ" وهذا هو المرادُ في الآية. و "هي" ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ في محلِّ رفع خبراً لـ "ما"، والجملةُ في محلِّ نصب بيبيِّن، لأنه مُعَلَّقٌ عن الجملةِ بعده، وجاز ذلك لأنَّه شبيهٌ بأفعالِ القلوبِ.
قوله: { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ } لا نافيةٌ، و "فارضٌ" صفةٌ لبقرة، واعترض بـ "لا" بين الصفةِ والموصوفِ، نحوٍ: مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصيرٍ. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي: لا هي فارضٌ. وقولُه: { وَلاَ بِكْرٌ } مثلُ ما تقدَّم، وتكرَّرت "لا" لأنها متى وقعت قبل خبرٍ أو نعتٍ أو حالٍ وَجَب تكريرُها، تقول: زيدٌ لا قائمٌ ولا قاعدٌ، ومررت به لا ضاحكاً ولا باكياً، ولا يجوز عدمُ التكرارِ إلا في ضرورةٍ, خلافاً للمبرد وابن كيسان، فمن ذلك:
529ـ وأنتَ امرؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لغيرِنا حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ
وقولُه:
530ـ قَهَرْتَ العِدَى لا مُسْتَعيناً بعُصْبَةٍ ولكنْ بأنواعِ الخدائعِ والمَكْرِ
فلم يكرِّرها في الخبر ولا في الحالِ.
والفارضُ: المُسِنَّةُ الهَرِمة، قال الزمخشري: "كأنَّها سُمِّيَتْ بذلك لأنها فَرَضَتْ سِنَّها، أي قَطَعَتْها وبَلَغَتْ آخرَها" قال الشاعر:
531ـ لَعَمْرِي لقد أَعْطَيْتَ جارَك فارِضاً تُساقُ إليه ما تقومُ على رِجْلِ
ويقال لكلِّ ما قَدُم: فارضٌ، قال:
532ـ شَيَّبَ أصداغِي فرأسي أبيضُ محامِلٌ فيها رجالٌ فُرَّضُ
أي: كبارٌ قدماء، وقال آخر:
533ـ يا رُبَّ ذي ضِغْنٍ عليَّ فارضِ له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ
وقال الراغب: "سُمِّيَتْ فارِضاً لأنها تقطعُ الأرضَ،والفَرْضُ في الأصل: القَطْع وقيل: لأنها تحملُ الأحمَالَ الشاقةَ. وقيل: لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّة، قال: فعلى هذا تكونُ الفارضُ اسماً إسلامياً" ويقال فَرَضَتْ تفرِضُ بالفتح فُروضاً، وقيل: فَرُضَتْ بالضمِّ أيضاً. والبِكْرُ ما لم تَحْمِل، وقيل: مَا وَلَدَتْ بطناً واحداً وذلك الولدُ بِكْرٌ أيضاً، قال:
534ـ يا بِكْرَ بَكْرَيْنِ ويا خِلْبَ الكَبِدْ أصبحْتَ مني كذراعٍ من عَضُدْ
والبِكْرُ من الحيوان: مَنْ لم يَطْرُقْه فَحْل، والبَكْر بالفتح: الفَتِيُّ من الإِبل، والبَكارة بالفتح: المصدر.
قوله: { عَوَانٌ } صفةٌ لبقرة، ويجوز أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي: هي عوانٌ، كما تقدَّم في { لاَّ فَارِضٌ } والعَوانُ، النَّصَفُ، وهو التوسُّطُ بين الشيئينِ، وذلك أقوىٰ ما يكونُ وأحسنُه، قال:
535ـ ............................... نواعِمُ بين أبكارٍ وعُونِ
وقيل: هي التي وَلَدَت مرةً بعد أخرى، ومنه الحَرْبُ العَوانُ، أي: التي جاءت بعدَ حربٍ أخرى، قال زهير:
536ـ إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ
والعُون بسكونِ الواو: الجمعُ، وقد تُضَمُّ ضرورةً كقوله:
537ـ ....................... .... في الأكُفِّ اللامِعاتِ سُوُرْ
بضمِّ الواو. ونظيرُه في الصحيح: قَذَال وقُذُل، وحِمار وحُمُر.
قوله: { بَيْنَ ذٰلِكَ } صِفةٌ لعَوان، فهو في محلِّ رفعٍ ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائنٌ بين ذلك، و "بين" إنما تُضاف لشيئين فصاعداً، وجاز أن تضافَ هنا إلى مفرد، لأنه يُشارُ بِهِ إلى المثنى والمجموع، كقوله:
538ـ إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى وكِلا ذلك [وَجْهٌ وقَبَلْ]
كأنه قيل: بين ما ذُكِر من الفارضِ والبِكْر. قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف جازَ أن يُشارَ به إلى مؤنَّثَيْن وإنما هو لإِشارةِ المذكر؟ قلت: لأنه في تأويلِ ما ذُكر وما تقدَّم"، وقال: "وقد يَجْري الضمير مَجْرى اسم الإِشارةِ في هذا/ قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة في قوله:
539ـ فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
إن أردْتَ الخطوطَ فقل: كأنها، وإن أردْتَ السوادَ والبَلَق فقل: كأنهما، فقال: أردْتُ: كأنَّ ذاكَ. وَيْلَك". والذي حَسَّنَ منه أنَّ أسماءَ الإِشارةِ تَثْنِيتُها وجَمْعُها وتأنيثُها ليسَتْ على الحقيقة، وكذلك الموصولاتُ، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع.
قوله: { مَا تُؤْمَرونَ } "ما" موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ تقديره: تُؤْمَرون بِه، فحُذِفَت الباءُ وهو حذفٌ مطَّردٌ، فاتصل بالضميرِ فحُذِفَ. وليس هو نظيرَ { { كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة: 69] فإنَّ الحذف هناك غيرُ مقيسٍ، ويضعُف أن تكونَ "ما" نكرةً موصوفةً. قال أبو البقاء: "لأنَّ المعنى على العُمومِ وهو بالذي أَشْبَهُ"، ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً أي: أَمَرَكم بمعنى مأمورَكم، تسميةً للمفعولِ بالمصدرِ كضَرْبِ الأمير، قاله الزمخشري. و "تُؤْمَرون" مبنيٌّ للمفعول والواوُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لوقوعِها صلةً.