التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
١٣٥
-آل عمران

الدر المصون

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ }: يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على الموصولِ قبلَه، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة، وتكونُ الجملةُ من قولِه: { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } جملةً اعتراضٍ بين المتعاطِفَيْن، ويجوزُ أَنْ يكونَ "والذين" مرفوعاً بالابتداء، و"أولئك" مبتدأٌ ثانٍ، و"جزاؤهم" مبتدأٌ ثالثٌ، و"مغفرةٌ" خبرُ الثالث، والثالثُ وخبرُه خبرُ الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. وقوله: { إِذَا فَعَلُواْ } شرطٌ جوابُه "ذكروا" وقوله: { فَٱسْتَغْفَرُواْ } عطفٌ على الجواب، والجملةُ الشرطية وجوابُها صلةُ الموصولِ، والمفعولُ الأولُ لاستغفر محذوفٌ، أي: استغفروا اللهَ لذنوبِهِم. وقد تقدَّم الكلامُ على "استغفر"، وأنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجر، وليس هو هذه اللامَ بل "مِنْ"، وقد تُحْذَفُ، وقوله: { وَمَن يَغْفِرُ } استفهامٌ معناه النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناءُ.
وقوله: { إِلاَّ ٱللَّهُ } بدلٌ من الضمير المستكنِّ في "يغفرُ" التقديرُ: لا يغفرُ أحدٌ الذنوبَ إلا اللهُ، والمختارُ هنا الرفعُ على البدلِ لكونِ الكلامِ غيرَ إيجاب، وقد تقدَّم تحقيقُه عند قولِه تعالى:
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة: 130]. وقال ابو البقاء: "ومَنْ" مبتدأ، و"يغفر" خبرُه، و{ إِلاَّ ٱللَّهُ } فاعلٌ أو بدلٌ من المضمر وهو الوجه، لأنك إذا جَعَلْتَ اللهَ تعالى فاعلاً احتجْتَ إلى تقدير ضمير أي: ومَنْ يغفر الذنوبَ له غيرُ الله" وهذا الذي قاله ـ أعني جَعْلَه الجلالَةَ فاعلاً ـ يَقْرُب من الغلط فإنَّ الاستفهامَ هنا لا يُراد به حقيقتُه، إنما يُرادُ النفيُ، والوجهُ ما تقدَّم من كونِ الجلالةِ بدلاً من ذلك الضميرِ المستترِ العائدِ على "مَنْ" الاستفهامية.
قوله: { وَلَمْ يُصِرُّواْ } يجوز أن تكونَ جملةً حاليةً من فاعلِ "استغفروا" أي: استغفروا غيرَ مُصِرِّين، ويجوزُ أن تكونَ هذه الجملةُ منسوقَةً على "فاستغفروا" أي: ترتَّب على فِعْلهم الفاحشةَ ذِكْرُ اللهِ تعالى والاستغفارُ لذنوبهم وعدمُ إصرارِهم عليها، وتكونُ الجملةُ مِنْ قوله: { وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } على هذين الوجهين معترضةً بين المتعاطفين على الوجه الثانَي، وبين الحالِ وذي الحالِ على الأول.
قوله: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يجوز أن تكونَ حالاً ثانيةً من فاعل "استغفروا" وأن تكونَ حالاً من فاعل "يُصِرُّوا"، ومفعولٌ "يَعْلَمُون" محذوفٌ للعلمِ به، فقيل: تقديرُه: يعلمونَ أنَّ الله يتوبُ على مَنْ تَابَ، قاله مجاهد. وقيل: يعلمون أنَّ تَرْكَه أَوْلى، قاله ابن عباس والحسن. وقيل: يَعْلَمُون المؤاخذةَ بها أو عَفْوَ اللهِ عنها. و"ما" في قوله: { عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ } يجوزُ أَنْ تكونَ اسميةً بمعنى الذي، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً.
والإِصرارُ: المداوَمةٌ على الشيء وتَرْكُ الإِقلاعِ عنه وتأكيدُ العزم على ألاَّ يتركَه، مِنْ صَرَّ الدنانيرَ: إذا رَبَطَ عليها، ومنه "صُرَّةُ الدارهم" لما يُرْبَطُ بها. وقال الحطيئة يصف خيلاً:

1431ـ عوابِسُ بالشُّعْثِ الكُماةِ إذا ابْتَغَوْا عُلالَتَها بالمُحْصَداتِ أَصَرَّتِ

أي: ثَبَتَتْ وأقامَتْ مداومةً على ما حُمِلَتْ عليه. وقال الشاعر:

1432ـ يُصِرُّ بالليلِ ما تُخْفِي شواكِلُه يا ويحَ كلِّ مُصِرِّ القلبِ خَتَّارِ