التفاسير

< >
عرض

لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ
١٩٨
-آل عمران

الدر المصون

قوله تعالى: { لَكِنِ ٱلَّذِينَ }: قرأ الجمهورُ بتخفيفِها، وأبو جعفر بتشديدِها، فعلى القراءةِ الأولى: الموصولُ رفعٌ بالابتداء، وعند يونس يجوز إعمالُ المخففة، وعلى الثانية في محل نصب. ووقعت "لكن" هنا أحسنَ موقع، فإنَّها وقعت بين ضدين: وذلك أن معنى الجملتين التي قبلها والتي بعدها آيلٌ إلى تعذيبِ الكفار وتنعيمِ المتقين، ووجهُ الاستدراك أنَّه لَمَّا وَصَفَ الكفارَ بقلةِ نفعِ تَقَلُّبهم في التجارة وتصرُّفهم في البلادِ لأجلها جازَ أن يَتَوَّهَّمَ متوهِّمٌ أن التجارة من حيث هي متصفةٌ بذلك فاستدرك أن المتقين وإن أخذوا في التجارة لا يَضُرُّهم ذلك وأنَّ لهم ما وعدهم به.
قوله: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } هذه الجملة أجاز مكي فيها وجهين، أحدهما: الرفع على النعت لـ"جنات". والثاني: النصب على الحالِ من الضمير المُسْتكنِّ في "لهم" قال: "وإنْ شِئْتَ في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في "لهم"؛ إذ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إنْ رَفَعْتَ "جنات" بالابتداء، فإنْ رَفَعْتَها بالاستقرار لم يكن في "لهم" ضميرٌ مرفوع إذ هو كالفعل المتقدم". يعني أن "جنات" يجوز رفعُها من وجهين، أحدُهما: الابتداءُ والجارُّ قبلها خبرها والجملةُ خبر "الذين اتقوا". والثاني: بالفاعليةِ لأنَّ الجارَّ قبلَها اعتمد بكونِه خبراً للذين اتقوا، وقد تقدَّم أنَّ هذه أَوْلى لقربِه من المفرد، فإنْ جَعَلْنا رفعَها بالابتداءِ جاز في { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } وجهان: الرفعُ على النعت والنصبُ على الحالِ من الضمير المرفوعِ في "لهم" لِتحمُّلِه حينئذ ضميراً، وإنْ جَعَلْنا رفعَها بالفاعليِةِ تعيَّن أن تكونَ الجملةُ بعدَها في موضعِ رفعٍ نعتاً لها، ولا يجوزُ النصبُ على الحال؛ لأنَّ "لهم" ليس فيه حينئذ ضميرٌ لرفعِه الظاهرَ. و"خالدين" نصبٌ على الحالِ من الضميرِ في "لهم"، والعاملُ فيه معنى الاستقرار.
قوله: "نُزُلاً" النُّزْلُ: ما يُهيَّأ للنزيل وهو الضيف. قال أبو الشعراء الضبي:

1522ـ وكنا إذا الجبارُ بالجيشِ ضافَنا جَعَلْنا القَنا والمُرْهَفاتِ له نُزْلا

هذا أصلُه ثم اتُّسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء، وإنْ لم يكن لضيف، ومنه: { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } [الواقعة: 93] وفيه قولان: هل هو مصدر أو جمع نازل، نحو قول الأعشى:

1523ـ ......................... أو تَنْزِلون فإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ

إذا عَرَفْتَ هذا ففي نصبه ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوب على المصدر المؤكِّد؛ لأنَّ معنى "لهم جنات" نُنْزلُهم جناتٍ نُزُلاً. وقَدَّره الزمخشري بقوله: "رزقاً وعطاءً من عند الله". الثاني: نصبُه بفعل مضمر أي: جَعَلهم لهم نُزُلاً. الثالث: نصبُه على الحال من "جنات" لأنها تخصصت بالوصف. الرابع: أن يكون حالاً من الضمير في "فيها" أي: مُنَزَّلةً إذا قيل: بأن "نُزُلاً" مصدر بمعنى المفعول نقله أبو البقاء. الخامس: أنه حال من الضمير المستكنِّ في "خالدين" إذا قلنا إنه جمع نازل، قاله الفارسي في "التذكرة". السادس ـ وهو قول الفراء ـ: نصبه على التفسير أي: التمييز، كما تقول: "هو لك هبةً أو صدقة"، وهذا هو القول بكونه حالاً.
والجهورُ على ضم الزاي. وقرأ الحسن والأعمش/ والنخعي بسكونها وهي لغة، وعليها البيت المتقدم، وقد تقدم لك أن مثل هذا يكون فيه المسكَّنُ مخففاً من المثقل أو بالعكس، والحق: الأول.
قوله: { مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه، لأنك إنْ جَعَلْتَ "نُزُلاً" مصدراً كان الظرف صفةً له، فيتعلق بمحذوف أي: نزلاً كائناً من عند الله على سبيل التكريم، وإنْ جَعَلْتَه جمعاً كان في الظرفِ وجهان، أحدهما: جَعْلُه حالاً من الضمير المحذوف تقديره: نُزُلاً إياها. والثاني: أنه خبر محذوف أي: ذلك من عند الله، نقل ذلك أبو البقاء.
قوله: { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ }: "ما" موصولةٌ، وموضعُها رفعٌ بالابتداء، والخبر: "خَيْر"، و"للأبرار" صفة لـ"خير"، فهو في محلِّ رفع، ويتعلَّقُ بمحذوف. وظاهرُ عبارة الشيخ أنه متعلق بنفس "خير" فإنه قال: "وللأبرار" متعلق "بخير",. وأجاز بعضهم أن يكون "للأبرار" هو الخبرَ، و"خيرٌ" خبر ثان. قال أبو البقاء: "والثاني ـ أي الوجه الثاني ـ أن يكون الخبر "للأبرار"، والنية به التقديم، أي: والذي عند الله مستقر للأبرار، و"خير" على هذا خبرٌ ثان"، وفي ادِّعاء التقديم والتأخير نظرٌ؛ لأنَّ الأصل في الأخبار أن تكونَ بالاسمِ الصريح، فإذا اجتمع خبرٌ مفردٌ صريحٌ وخبرٌ مؤول به بُدِىء بالصريحِ من غيرِ عكسٍ، كالصفة، فإذا وقعا في الآيةِ على الترتيبِ المذكورِ فكيف يُدَّعى فيهما التقديمُ والتأخير؟.
ونقل أبو البقاء عن بعضِهم أنه جَعَل "للأبرار" حالاً من الضمير في الظرف، و"خير" خبر المبتدأ، قال: "وهذا بعيدٌ، لأنَّ فيه الفصلَ بين المبتدأ وخبره بحالٍ هي لغيره، والفصلَ بين الحال وصاحبها بخبر المبتدأ، وذلك لا يَجُوز في الاختيار.
وقال الشيخ: "وقيل: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: الذي عند الله للأبرارِ خيرٌ، قال: "وهذا ذهولٌ عن قاعدِة العربية: من أنَّ المجرورَ إذ ذاك يتعلق بما تعلَّق به الظرفُ الواقعُ صلةً للموصول، فيكون المجرور داخلاً في حيز الصلة، ولا يُخْبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها". فإنْ عنى الشيخُ بالتقديمِ والتأخيرِ هذا الوجهَ ـ أعني جَعْلَ "للأبرار" حالاً من الضمير في الظرف ـ فصحيحٌ، لأنَّ العاملَ في الحال حينئذ الاستقرارُ الذي هو عاملٌ في الظرفِ الواقعِ صلةً، فيلزَمُ ما قاله، وإنْ عنى به الوجهَ الأول ـ أعني جَعْلَ "للأبرار" خبراً، والنيةُ به التقديمُ، وبـ"خير" التأخيرُ كما ذكر أبو البقاء ـ فلا يَلْزَم ما قال، لأنَّ "للأبرار" حينئذٍ يتعلَّقُ بمحذوفٍ آخر غيرِ الذي تعلَّق به الظرف.
و"خير" هنا يجوز أن تكون للتفضيل وأن لا تكون فإنْ كانت للتفضيل كان المعنى: وما عند الله خيرٌ للأبرار مِمَّا لهم في الدنيا، ويحتمل: خير لهم مما يَتَقَلَّب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ.