التفاسير

< >
عرض

لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
١١٤
-النساء

الدر المصون

قوله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ }: في هذا الاستثناءِ قولان، أحدهما: أنه متصلٌ، والثاني: أنه منقطعٌ، وهما مبنيان على أن النجوى يجوز أن يُرادَ بها المصدرُ كالدَّعْوى فتكون بمعنى التناجي، وأَنْ يُرادَ بها القومُ المتناجُون إطلاقاً للمصدرِ على الواقع منه مجازاً نحو: "رجلٌ عَدْل وصَوْم" فعلى الأول يكون منقطعاً لأنَّ مَنْ أَمَر ليس تناجياً، فكأنه قيل: لكنْ مَنْ أَمَر بصدقةٍ ففي نجواه الخيرُ، والكوفيون يقدِّرون المنقطع بـ"بل"، وجَعَلَ بعضُهم الاستثناءَ متصلاً وإنْ أُريد بالنجوى المصدرُ، وذلك على حَذْفِ مضافٍ كأنه قيل: إلا نجوى مَنْ أَمَر، وإنْ جعلنا النجوى بمعنى المتناجين كان متصلاً. وقد عَرَفْتَ مِمَّا تقدَّم أن المنقطع منصوبٌ أبداً في لغة الحجاز، وأنَّ بني تميم يُجْرونه مُجْرى المتصل بشرط توجُّهِ العاملِ عليه، وأنَّ الكلامَ إذا كان نفياً أو شبهَه جاز في المستثنى الإِتباعُ بدلاً وهو المختار والنصبُ على أصل الاستثناء، فقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ }: إما منصوبٌ على الاستثناءِ المنقطع إنْ جَعَلْتَه منقطعاً في لغة الحجاز، أو على أصلِ الاستثناءِ إنْ جَعَلْتَه متصلاً، وإمَّا مجرورٌ على البدلِ من "كثير" أو مِنْ "نجواهم" أو صفةٌ لأحدهما: كما تقول: "لا تَمُرَّ بجماعة من القوم إلا زيد" إنْ شئتَ جَعَلْتَ زيداً تابعاً للجماعةِ أو للقومِ. ولم يَجْعلْه الزمخشري تابعاً إلا "لكثير" قال: "إلا نَجْوَى مَنْ أمر على أنه مجرورٌ بدلٌ من "كثير" كما تقولُ: "لا خيرَ في قيامِهم إلا قيامِ زيدٍ" وفي التنظير بالمثالِ نظرٌ لا تَخْفَى مباينتُه للآية، هذا كله إنْ جَعَلْنَا الاستثناءَ متصلاً بالتأويلين المذكورين أو منقطعاً على لغة تميم. وتلخَّص فيه ستة أوجه: النصب على الانقطاع في لغةِ الحجاز أو على أصل الاستثناءِ، والجرُّ على البدل من "كثير" أو مِنْ "نجواهم" أو على الصفةِ لأحدهما.
و{ مِّن نَّجْوَاهُمْ } متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لـ "كثير" فهو في محلِّ جر، والنجوى في الأصلِ مصدرٌ كما تقدم، وقد يُطْلَقُ على الأشخاص مجازاً [قال تعالى:
{ { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } [الإِسراء: 47]]، ومعناها المُسَارَّة، ولا تكون إلا من اثنين فأكثرَ، وقال الزجاج: النجوى ما تَفَرَّد به الاثنانُ فأكثرُ سراً كان أو ظاهراً. وقيل: النجوى جمع نَجِيّ نقله الكرماني. قوله: "بين" يجوز ان يكون منصوباً بنفس "إصلاح" تقول: "أصلحت بين القوم" قال تعالى: { { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [الحجرات: 10].
وأَنْ يتعلق / بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ"إصلاح" و"ابتغاءَ" مفعولٌ من أجله. وألف "مرضاة" عن واوٍ، وقد تقدم تحقيقه. وقرأ أبو عمرو وحمزة: "فسوف يُؤتيه" بالياءِ نظراً إلى الاسم الظاهر في قوله { مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } والباقون بالنون نظراً لقوله بعدُ: "نُولِّه ونُصْلِه" وهو أوقعُ للتعظيمِ.