التفاسير

< >
عرض

وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٥
-النساء

الدر المصون

قوله تعالى: { وَمَن لَّمْ }: "مَنْ" شرطية وهو الظاهر، ويجوز أن تكون موصولةً. وقوله: "فممَّا ملكت": إمَّا جوابُ الشرط وإما خبر الموصول، وشروطُ دخولِ الفاء في الخبر موجودةٌ. و"منكم" في محل نصبٍ على الحال مِنْ فاعل "يستطِعْ".
وفي نَصْب "طَوْلاً" ثلاثة أوجه أظهرها: أنه مفعول بـ"يستطع"، وفي قوله: "أن ينكحَ" على هذا ثلاثة أقوال، القول الأول: أنه في محلِّ نصب بـ"طَوْلاً" على أنه مفعولٌ بالمصدر المنون؛ لأنه مصدر "طُلْت الشيء" أي: نِلْتُه، والتقدير: ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات. ومثلُه قول الفرزدق:

1573ـ إن الفرزدق صخرةٌ ملمومَةٌ طالَتْ فليسَ ينالها الأوعالا

أي: طالت الأوعال فلم تَنَلْها، وإعمالُ المصدر المنون كثير، قال:

1574ـ بضربٍ بالسيوف رؤوسَ قومٍ أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيل

وقولُ الله تعالى: { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا } [البلد: 14-15]، وهذا الوجه ذهب [إليه] الفارسيّ.
القول الثاني: أنَّ "أَنْ ينكحَ" بدلٌ من "طَوْلاً" بدلُ الشيء من الشيء؛ لأنَّ الطَّوْل هو القدرةُ أو الفَصْلُ، والنكاحُ قدرةٌ وفَصْلٌ.
القول الثالث: أنَّه على حذفِ حرفِ الجر، ثم اختلف هؤلاء: فمنهم مَنْ قَدَّره بـ"إلى" أي: طَوْلاً إلى أن ينكحَ، ومنهم مَنْ قَدَّره باللام، أي: لأنْ ينكِحَ، وعلى هذين التقديرين فالجارُّ في محل الصفة لـ"طَوْلاً" فيتعلق بمحذوفٍ، ثم لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجر جاء الخلاف المشهور في محل "أَنْ" أنصبُ هو أم جر؟ وقيل: اللامُ المقدرة مع "أنْ" هي لامُ المفعول من أجله أي: طَوْلاً لأجل نكاحِهِنَّ.
الوجه الثاني مِنْ نصب "طولاً" أن يكونَ مفعولاً له على حذف مضافٍ أي: ومَنْ لم يستطعْ منكم لعدمِ طَوْل نكاح المحصنات، وعلى هذا فـ"أن ينكح" مفعولٌ "يستطع" أي: ومَنْ لم يستطِعْ نِكاح المحصناتِ لعدمِ الطَّوْل.
الوجه الثالث: أن يكونَ منصوباً على المصدر، قال ابن عطية: "ويَصِحُّ أن يكونَ "طَوْلاً" نصباً على المصدر، والعامل فيه الاستطاعة لأنهما بمعنى، و"أن ينكح" على هذا مفعولٌ بالاستطاعة أو بالمصدر" يعني أن الطَّوْل هو استطاعةٌ في المعنى فكأنه قيل: ومَنْ لم يستطع منكم استطاعةً.
قوله: "فممَّا" الفاء قد تقدم أنها: إمَّا جوابُ الشرط، وإما زائدةٌ في الخبر على حَسَب القولين في "مَنْ". وفي هذه الآية سبعة أوجه، أحدها: أنها متعلقة بفعل مقدر بعد الفاء تقديره: فلينكحْ مِمَّا مَلَكَتْه أيمانكم، و"ما" على هذا موصولةٌ بمعنى الذي، أي: النوعَ الذي ملكته، ومفعولُ ذلك الفعل المقدر محذوف تقديره: فلينكح امرأة أو أَمَةً مِمَّا ملكته أيمانكم، فـ"مما" في الحقيقة متعلق بمحذوف؛ لأنه صفة لذلك المفعولِ المحذوفِ، و"مِنْ" للتبعيض نحو: أكلت من الرغيف، و"من فتياتكم" في محل نصب على الحال من الضمير المقدر في "مَلَكَتْ" العائدِ على "ما" الموصولة، و"المؤمناتِ" صفةٌ لـ"فتياتِكم".
الثاني: أن تكونَ "مِنْ" زائدةً و"ما" هي المفعولةُ بذلك الفعل المقدر أي: فلينكح ما ملكَتْه أَيْمانكم. الثالث: أن "مِنْ" في "من فتياتكم" زائدة، و"فتياتِكم" هو مفعولُ ذلك الفعل المقدر أي: فلينكح فتياتِكم، و"مِمَّا ملكت" متعلقٌ بنفسِ الفعل، و"من" لابتداء الغاية، أو بمحذوفٍ على أنه حال من "فتياتكم" قُدِّمَ عليها، و"مِنْ" للتبعيض. الرابع: أن مفعول "فلينكح" هو المؤمنات أي: فلينكح الفتيات المؤمنات، و"مِمَّا ملكت" على ما تقدم في الوجه قبله، و"من فتياتكم" حالٌ من ذلك العائد المحذوف. الخامس: أنَّ "مما" في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: فالمنكوحة مما ملكت. السادس: أن "ما" في "ممَّا" مصدريةٌ أي: فلينكح مِنْ مِلْك أيمانكم، ولا بد أن يكونَ هذا المصدرُ واقعاً موقع المفعول نحو:
{ هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } [لقمان: 11] ليَصِحَّ وقوع النكاح عليه. السابع ـ وهو أغربُها ونُقِل عن جماعة منهم ابن جرير ـ " أن في الآية تقديماً وتأخيراً وأن التقدير: ومَنْ لم يستطع منكم طوْلاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضُكم من بعض الفتيات، فـ"بعضُكم" فاعل ذلك الفعل المقدر، فعلى هذا يكون قوله: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } معترضاً بين ذلك الفعل المقدر وفاعِله. ومثلُ هذا لا ينبغي أن يقال.
قوله: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } جملةٌ من مبتدأ وخبر، وجيء بها بعد قوله { مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } ليفيدَ أنَّ الإِيمان الظاهر كافٍ في نكاحِ الأَمَةِ المؤمنةِ ظاهراً، ولا يشترط في ذلك أَنْ يَعْلَمَ إيمانَها علماً يقيناً، فإنَّ ذلك لا يطَّلِعُ عليه إلا اللهُ تعالى، وفيه تأنيس أيضاً بنكاحِ الإِماء فإنهم كانوا يَنْفِرون من ذلك.
قوله: { بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ } مبتدأٌ وخبر أيضاً، جيء بهذه الجملة أيضاً تأنيساً بنكاح الإِماء كما تقدم، والمعنى: أن بعضكم من جنس بعض في النسب والدين، فلا يترفَّع الحُرُّ عن نكاح الأمةِ عند الحاجة إليه، وما أحسنَ قولَ أمير المؤمنين علي: "الناسُ من جهة التمثيل أَكْفاء، أبوهم آدم والأم حواء".
قوله: { بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } متعلق بـ"انكحوهن"، وقَدَّر بعضهم مضافاً محذوفاً أي بإذنِ أهل ولايتهن، وأهلُ ولايةِ نكاحهنَّ هم المُلاَّك. و"بالمعروف" فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه متعلق بـ"آتوهُنَّ" أي: آتوهن مهورَهنَّ بالمعروف./ الثاني أنه حال من "أجورهن" أي: ملتبساتٍ بالمعروف يعني غيرَ ممطولةٍ. والثالث: أنه متعلق بقوله: "فانكِحوهن" أي: فانكِحوهن بالمعروف بإذن أهلهن ومَهْرِ مثلهن والإِشهاد عليه، وهذا هو المعروف. وقيل: في الكلام حذف تقديره: وآتوهُنَّ أجورهن بإذن أهلهن، فحذف من الثاني لدلالة الأولِ عليه نحوُ:
{ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ } [الأحزاب: 35] أي: الذاكرات اللهَ. وقيل: ثَمَّ مضافٌ مقدر أي: وآتوا مواليَهن أجورَهُنَّ، لأنَّ الأَمَة لا يُسَلَّمُ لها شيءٌ من المهر.
قوله: { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } حالان من مفعول "فآتوهن" ومحصنات على هذا بمعنى مُزَوَّجات. وقيل: محصنات حالٌ من مفعول "فانكحوهن"، ومحصنات على هذا بمعنى عفائفَ أو مسلمات، والمعنى: فانكحوهن حالَ كونهن محصناتٍ لا حالَ سِفاحِهن واتخاذِهِنَّ للأخْدان. وقد تقدَّم أن "محصنات" بكسرِ الصادِ وفتحِها، وما معناها، وأنَّ "غيرَ مسافحين" حالٌ مؤكدة.
{ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ } عطفٌ على الحال قبله. والأخْدان مفعول بـ"متخذات" لأنه اسمُ فاعل، وأخدان جمع "خِدْن"، كـ:عِدل وأَعْدال، والخِدْن: الصاحب، وقد تقدَّم أن المسافح هو المجاهر بالزنىٰ ومتخذَ الأخدانِ هو المستترُ به، وكذلك هو في النساء، وكان الزنىٰ في الجاهلية منقسماً إلى هذين القسمين.
قوله: { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: "أُحْصِنَّ" بضم الهمزة وكسر الصاد على البناء للمفعول، والباقون بفتحهما على البناء للفاعل، فمعنى الأولى: "فإذا أُحْصِنَّ بالتزوج" فالمُحْصِنُ لهنّ هو الزوج، ومعنى الثانية: "فإذا أَحْصَنَّ فروجَهن أو أزواجَهن" وهو واضح مما تقدم.
والفاء في "فإنْ" جواب "إذا" وفي "فعليهن" جواب "إنْ"، فالشرطُ الثاني وجوابه مترتِّبٌ على وجود الأول، ونظيره: "إن أكلت فإنْ ضربت عمراً فأنت حر" لا يُعْتق حتى يأكلَ أولاً ثم يضربَ عمراً ثانياً، ولو أسقطت الفاء الداخلة على "إن" في مثل هذا التركيب انعكس الحكمُ، ولزم أن يَضْرب أولاً ثم يأكل ثانياً. وهذا يُعْرف من قواعد النحو، وهو أن الشرط الثاني يُجعل حالاً فيجب التلبُّسُ به أولاً.
قوله: { مِنَ ٱلْعَذَابِ } متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضمير المستكنِّ في صلةِ "ما" وهو "على"، فالعاملُ فيها معنوي، وهو في الحقيقةِ ما تعلَّق به هذا الجار، ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً من "ما" المجرورةِ بإضافة "نصف" إليها؛ لأنَّ الحالَ لا بد أن يعمل فيها ما يعمل في صاحبها، و"نصفُ" هو العامل في صاحبِها الخفضَ بالإِضافة، ولكنه لا يعمل في الحال لأنه ليس من الأسماء العاملة، إلاَّ أن بعضهم يَرى أنه إذا كان جزءاً من المضافِ جازَ ذلك فيه، والنصفُ جزءٌ فيجوز ذلك.
قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ } "ذلك" مبتدأ، و"لِمَنْ خشي" جارٌّ ومجرور خبرُه، والمشار إليه بـ"ذلك" إلى نكاح الأمة المؤمنة لِمَنْ عَدِم الطَّوْلَ. والعَنَتْ في الأصل انكسارُ العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة، وأُريد به هنا ما يَجُرُّ إليه الزنىٰ من العقاب الدنيوي والأخروي، و"منكم" حالٌ من الضمير في "خَشِي" أي: في حالِ كونه منكم. ويجوز أن تكونَ "مِنْ" للبيان.
قوله: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } مبتدأ وخبر لتأوُّلِه بالمصدر وهو كقوله:
{ وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [البقرة: 237].