التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوۤاْ آمَنَّا وَٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ
١١١
-المائدة

الدر المصون

قوله تعالى: { أَنْ آمِنُواْ }: في "أَنْ" وجهان، أظهرهما: أنها تفسيرية لأنها وردت بعدما هو بمعنى القول لا حروفِه. والثاني: انها مصدرية بتأويلٍ متكلف أي: أَوْجَبْتُ إليهم الأمر بالإِيمان، وهنا قالوا "آمنَّا" ولم يُذْكر المُؤْمَنْ به، وهناك { { آمَنَّا بِٱللَّهِ } [آل عمران: 52] فذكره، والفرق أنَّ هناك تقدَّم ذِكْرُ الله تعالى فقط فأُعيدَ المؤمَنْ به فقيل: "بالله" وهنا ذُكِر شيئان قبل ذلك وهما: { أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } فلم يُذْكَر ليشمل المذكورين، وفيه نظرٌ. وهنا "بأنَّنا" وهناك "بأنَّا" بالحذف، وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ هذا هو الأصل، وإنما جِيء هنا بالأصل لأنَّ المُؤْمَنَ به متعدِّدٌ فناسَبَه التأكيد.
قوله: { هَلْ يَسْتَطِيعُ } قرأ الجمهورُ "يَسْتَطيع" بياء الغيبة "ربك" مرفوعاً بالفاعلية، والكسائي: "تَسْتَطيع" بتاء الخطاب لعيسى، و"ربَّك" بالنصب على التعظيم، وقاعدتُه أنه يُدْغِم لام "هل" في أحرف منها هذا المكان، وبقراءة الكسائي قرأت عائشة، وكانت تقول: "الحواريُّونَ أعرفُ بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربك" كأنها - رضي الله عنها - نَزَّهَتْهم عن هذه المقالةِ الشنيعة أَنْ تُنْسَبَ إليهم، وبها قرأ معاذ أيضاً وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين، وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة: هل تحتاجُ إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟ فجمهورالمُعْربين / يقدِّرون: هل تستطيعُ سؤالَ ربك، وقال الفارسي: "وقد يمكن أَنْ يُسْتغنى عن تقدير "سؤالَ" على أن يكون المعنى: هل تستطيع أن يُنَزَّل ربُّك بدعائك، فيُرَدُّ المعنى - ولا بد - إلى مقدَّر يدل عليه ما ذُكِر من اللفظ" قال الشيخ: "وما قاله غيرُ ظاهرٍ لأنَّ فعلَه تعالى وإنْ كان مسبباً عن الدعاءِ فهو غيرُ مقدورٍ لعيسى" واختار أبو عبيد هذه القراءةَ قال:"لأنَّ القراءةَ الأخرى تُشْبه أن يكونَ الحواريُّون شاكِّين، وهذه لا تُوهِمُ ذلك". قلت: وهذا بناء من الناسِ على أنهم كانوا مؤمنين، وهذا هو الحقُّ.
قال ابن الأنباري: "لا يجوزُ لأحد أن يتَوَهَّم على الحواريين أنهم شَكُّوا في قدرة الله تعالى" وبهذا يَظْهَرُ أنَّ قول الزمخشري أنهم ليسا مؤمنين ليس بجيدٍ وكأنه خارقٌ للإِجماع. قال ابن عطية: "ولا خلاف أحفظُه أنهم كانوا مؤمنين". وأمَّا القراءةُ الأولى فلا تَدُلُّ له لأن الناس أجابوا عن ذلك باجوبةٍ منها: أنَّ معناه: هل يَسْهُل عليك أن تسأل ربَّك، كقولِك لآخر: هل تستطيع أن تقومَ؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك. ومنها: أنهم سألوه سؤالَ مستخبرٍ: هل يُنَزَّل أم لا، فإن كان يُنَزِّلُ فاسأله لنا. ومنها: أن المعنى هل يفعلُ ذلك وهل يقع منه إجابةٌ لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زيد: هل تستطيعُ أن تُرَيَني كيف كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ أي هل تُحِبُّ ذلك؟ وقيل: المعنى: هل يطلب ربُّك الطاعة من نزول المائدة؟ قال أبو شامة: "مثلُ ذلك في الإِشكال ما رواه الهيثم - وإن كان ضعيفاً - عن ثابت عن أنس
"أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عادَ أبا طالب في مرض فقال: يا بنَ أخي ادعُ ربَّك الذي تعبده فيعافيَني. قال: اللهم اشفِ عمي، فقام أبو طالب كأنما نَشِط من عِقال. فقال: يابنَ أخي إنّ ربك الذي تعبدُ لَيطيعُك. قال: وأنت يا عَمَّاه لو أَطَعْتَه، أو: لئن أطعتَ اللّهَ ليطيعَنَّك اي: لَيجيبَنَّك إلى مقصودك" . قلت: والذي حَسَّن ذلك المقابلةُ منه صلى الله عليه وسلم للفظِ عَمِّه كقوله: { { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [آل عمران: 54] وقيل: التقدير: هل يُطيع؟ فالسينُ زائدة كقولهم: استجاب وأجاب، قال:

1844- وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى فلم يَسْتِجَبْه عند ذاك مُجيبُ

وبهذه الأجوبةِ يُستغنى عن قولِ مَنْ قال: "إنَّ يستطيع زائدةٌ" والمعنى: هل يُنَزَّل ربُّك، لأنه لا يُزال من الأفعال إلا "كان" بشرطينِ وشَذَّ زيادةُ غيرِها في مواضعَ عَدَدْتُها في غيرِ هذا الكتاب، على أنَّ الكوفيين يُجيزون زيادةَ بعض الأفعال مطلقاً، حَكَوْا: قَعَدَ فلانٌ يتهكَّم بي"، وأنشدوا:

1845- على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ كخنزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ

وحكى البصريون على وجه الشذوذ: "ما اصبحَ أبردَها وما أمسى أدفأَها" يعنون الدنيا.
قوله { أَن يُنَزِّلَ } في قراءةِ الجماعة في محل نصب مفعولاً به أي: الإِنزالَ. وقال أبو البقاء: "والتقدير: على أن ينزَّل، أو في أن ينزَّل، ويجوز ألاَّ يُحتاجَ إلى حرف جر على أن يكون "يَسْتطيع" بمعنى "يُطيق". قلت: إنما احتاج إلى تقديرِ حَرْفَي الجرِّ في الأول لأنه حَمَل الاستطاعةَ على الإِجابة، وأمَّا قولُه أخيراً "إنَّ يستطيع بمعنى يُطِيق" فإنما يَظْهَرُ كلَّ الظهورِ على رأي الزمخشري من كونهم ليسوا بمؤمنين. وأمَّا في قراءةِ الكسائي فقالوا: هي في محلِّ نصبٍ على المفعولية بالسؤالِ المقدَّر أي: هل يستطيع أنت أن تسألَ ربَّك الإِنزالَ، فيكون المصدرُ المقدرُ مضافاً لمفعوله الأول وهو "ربّك" فلمَّا حُذِفَ المصدرُ انتصب. وفيه نظرٌ من أنهم أعملوا المصدرَ مضمراً، وهو لا يجوزُ عند البصريين، يُؤَوِّلون ما ورد ظاهرُه ذلك. ويجوز أن يكونَ "أن ينزَّل" بدلاً من "ربك" بدلَ اشتمالٍ، والتقدير: هل تستطيع أي: هل تُطيق إنزالَ الله تعالى مائدةً بسبب دعائك؟ وهو وجهٌ حسن.
و"مائدة" مفعول "يُنَزِّلُ" والمائدة: الخِوُان عليه طعامٌ، فإن لم يكن عليه طعامٌ فليست بمائدةٍ، هذا هو المشهور، إلا أن الراغب قال: "والمائدةُ: الطبقُ الذي عليه طعام، ويقال لكل واحدٍ منها مائدةٌ" وهو مخالِفٌ لما عليه المُعْظَمُ، وهذه المسألة لها نظائرٌ في اللغة، لا يقال للخِوان مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ وإلا فهو خِوان، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ وإلا فهي قَدَحٌ، ولا يقال ذَنوب وسَجْل إلا وفيه ماء، وإلا فهو دَلْو، ولا يقال جِراب إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهاب، ولا قَلَمٌ إلا وهو مَبْرِيٌّ وإلا فهو أنبوب. واختلف اللغويون في اشتقاقها فقال الزجاج: "هي من مادَ يَميدُ إذ تحرك، ومنه قوله:
{ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ } [الأنبياء: 31] ومنه: مَيْدُ البحر" وهو ما يُصيب راكبَه، فكأنها تَميد بما عليها من الطعام، قال: "وهي فاعِله على الأصل" وقال أبو عبيد: "هي فاعلة بمعنى مَفْعولة مشتقةٌ من مادَهُ بمعنى أعطاه، وامتادَهُ بمعنى استعطاهُ فهي بمعنى مَفْعولة" قال: "كعِيشة راضِية" وأصلُها أنها مِيدَ بها صاحبُها أي: أُعْطِيها، والعربُ تقول: ما دَني فلان يَميدني إذا أحسنَ إليَّ وأعطاني" وقال أبو بكر بن الأنباري: "سُمِّيت مائدةً لأنها غياثٌ وعطاءٌ، من قولِ العرب: مادَ فلانٌ فلاناً إذا أَحْسَنَ إليه، وأنشدَ:

1846- إلى أميرِ المؤمنين المُمْتادْ

أي: المُحْسِنُ لرعيَّته، وهي فاعِلَة من المَيْد بمعنى مُعْطِية فهو قريب من قولِ أبي عبيد في الاشتقاق، إلا أنَّ‍ها عنده بمعنى فاعِله على بابها. وابنُ قتيبة وافق أبا عبيد في كونها بمعنى مفعولة، قال: "لأنها يُمادُ بها الآكلون أي يُعْطَوْنها". وقيل: هي من المَيْد وهو الميل، وهذا هو معنى قول الزجاج. قوله: "من السماء" يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه، وأَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ لـ "مائدة" أي: مائدةً كائنةً من السماء أي: نازلةً منها.